علي الديري: أخطر حتى من "داعش"... رحلة مثيرة في النصوص المتوحشة




علي الديري: أخطر حتى من "داعش"... رحلة مثيرة في النصوص المتوحشة
أجرت الحوار:أفراح الهندال


فكرتان رائجتان اليوم حول نشأة تنظيم "داعش" الإرهابي. "إنه رد على تحديات عصرنا". هذه واحدة من الأفكار التي يدافع عنها أحد أبرز الفلاسفة السياسيين إثارة للجدل في عصرنا فرانسيس فوكوياما. لكن ماذا أنها لو لم تكن كذلك، وكانت "داعش" على العكس تماماً فكرة عميقة الجذور وأبعد زماناً من زماننا بكثير. على الأقل، إن هذا ما يدافع عنه الناقد د. علي الديري الذي انتهى حديثاً من رحلة بحث غاص فيها في عشرات بل مئات الوثائق والمصنفات التي تمثل ما يمكن اعتبارها نصوصاً مؤسسة للفكر الإرهابي.
إنها "النصوص المتوحشة" أو نصوص التوحش التي تستند لها كافة حركات التطرف في تأصيل فكرها ومنهجها الدمويّ. وهي نفسها عنوان الكتاب الذي دوّن فيه خلاصات هذه الرحلة البحثية الشاقّة والصادر حديثاً (2015) عن  مركز أوال للدراسات والتوثيق "نصوص متوحشة.. التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية". وحول ذلك يقول الديري "ذهبت إلى النصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية".
في هذا الكتاب حاول الديري تتبع جذور "داعش" ليس من الآن؛  إنما انطلاقاً من نصوص التكفير في القرن الخامس الهجري (الغزاليّ) مروراً بالقرن السادس الهجري (ابن تومرت) وانتهاء بالقرن الثامن الهجري؛ حيث بلغ التكفير أوج قوّته مع إسلام ابن تيمية. ويجادل بأن هذه النصوص "هي التي تغذي التكفير الذي تستخدمه داعش اليوم وأخواتها"، موضحاً "بضغطة زر في يوتيوب يمكنك أن تعثر على دروس  تركي البنعلي وهو يشرح هذه النصوص منذ أن كان في البحرين". للمزيد حول ذلك التقينا بالناقد علي الديري للحوار حول مؤلفه الجديد وفيما يلي مقتطفات:

1. "نصوص متوحشة".. وأفعال كارثية مدمرة، رأينا نتائجها في الوطن العربي، وها هي تفجع المملكة العربية السعودية والكويت وتهدد الدول المجاورة، ما الذي يحدث؟
في الوقفة الاحتجاجية على الفيلم المسيء للنبي، أمام السفارة الأمريكية بالبحرين في 2012، وقف منظر داعش الشرعي تركي البنعلي محاطا بأعلام القاعدة وتكبيرات الجمهور، وهو يرفع كتاب ابن تيمية (الصارم المسلول على شاتم الرسول): عليكم أن تأخذوا إسلامكم من الإمام الجبل الجهبذ شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث صنف هذا الكتاب لما تجرأ عساف النصراني على شتم الرسول".
هذا الكتاب واحد من نصوص التوحش، التي لا نجرؤ على نقدها، بل هي تحظى بحماية ورعاية وترويج، وتعتبر منهجاً فكرياً مشتركاً لحركات متطرفة ولنظام سياسي له سطوته في السياسية الإقليمية والدولية. تفجيرات مساجد الشيعة في الدمام والقديح والصوابر وقبلها في مأتم الدالوة، كلها تمت من قبل خريجي هذا المنهج وأتباعه. والمثقفون والإعلاميون لا يجرأون على قول هذه الحقيقة، بل هم يغمغمون عليها، فيفاقمون من أمراض التوحش في بيئاتهم.
إنها نصوص منسلخة من الإنسانية، يستدل بها ابن تيمية في كتابه (الصارم المسلول) على القتل البشع الذي تمارسه داعش اليوم، كما في استدلاله بقتل الشاعرة الهجاءة عَصْمَاءَ بِنْتَ مَرْوَانَ، برواية موضوعة "جَاءَهَا عُمَيْرُ بْنُ عَدِيّ فِي جَوْفِ اللّيْلِ حَتّى دَخَلَ عَلَيْهَا فِي بَيْتِهَا، وَحَوْلَهَا نَفَرٌ مِنْ وَلَدِهَا نِيَامٌ ، مِنْهُمْ مَنْ تُرْضِعُهُ فِي صَدْرِهَا، فَجَسّهَا بِيَدِهِ، فَوَجَدَ الصّبِيّ تُرْضِعُهُ فَنَحّاهُ عَنْهَا، ثُمّ وَضَعَ سَيْفَهُ عَلَى صَدْرِهَا حَتّى أَنْفَذَهُ مِنْ ظَهْرِهَا" (انظر: ابن تيمية، الصارم المسلول،ج1، ص195).

ومن هنا اتخذ كتابك الجديد "نصوص متوحشة"عنوانا، ماذا عن تصدر شعار حركة "داعش" مموها، لم اخترت هذا التشكيل
عنوانا لكتابك الجديد؟
اللوحة للصديق الفنان التشكيلي البحريني عباس يوسف، نشرها على صفحته في الفيسبوك، مع صعود نجم داعش ودخولها الموصل، وجدتها معبرة عن مفهوم (نصوص التوحش) تعبيراً فنياً رائعا، هي تستخدم شعارهم مقلوباً في إشارة إلى أنهم يقرأون النصوص قراءة مقلوبة، ويفهمون شعار الإسلام فهماً مقلوبا، يفهمون الرحمة توحشا والتوحيد توحداً بمعنى أنهم وحدهم الذين لا شريك لهم في فهم الإسلام وكل ما عداهم مشركون وكافرون ويجب قتلهم ليبقوا وحدهم. في داخل اللوحة هناك علامة استفهام، وهي تثير تساؤلاً عن الإله الذي يتكلم باسمه هؤلاء والرسول الذي يدعون أنهم يطبقون رسالته. في مقابل هذا الفهم
الساذج المتوحش لـ "لا إله إلا الله" هناك الفهم الصوفي العميق في روحانيته، كما في تجربة جلال الدين الرومي مثلا وهو يقول "من ذا الذي نجا من (لا) - قل لي؟ -هو العاشق الذي رأى البلاء". يقيم الرومي جدلا روحيا بين (لا)، و(إلا) في "لا إله إلا الله" لكل منهما مقامها الروحي الذي يفتح قلب الإنسان على الكون وكائناته وإلهه.
قبال تجربة العشق، هناك تجربة التوحش التي جعلت لشعار "لا إله إلا الله" معنى وحيداً هو "جئناكم بالذبح". وجدت في لوحة عباس يوسف هذا العمق المعبر عن كل ذلك.


ركزت على حركة داعش، أتجدها وفق هذا العنوان الجماعة الإسلامية الأكثر تطرفا أم تجدها مثالا يمكن أن نقرأ من خلاله تطرف الإسلام السياسي أيا كان مذهبه؟
كتابي " نصوص متوحشة.. التكفير من سنة السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية"  ينطلق من لحظة داعش الآن، لكنها ليست موضوع الكتاب، فأنا ذهبت للنصوص المؤسسة، قاربت نصوص التكفير؛ كنصوص سياسية لا فقهية.
حاولت قراءة نصوص التكفير قراءة تاريخية، في ثلاث بيئات سياسية، استخدمتْ التكفير ضد أعدائها: بيئة السلطة السلجوقية ( القرن الخامس الهجري )، من خلال نصوص الغزالي، وبيئة سلطة الموحدين (القرن السادس الهجري) من خلال نصوص ابن تومرت، وبيئة سلطة المماليك (القرن الثامن الهجري) من خلال نصوص ابن تيمية.
يتغذى التكفير - الذي تستخدمه داعش اليوم وأخواتها - من هذه النصوص. على سبيل المثال تغذي هذه النصوص منظر داعش الشرعي (تركي البنعلي) وبضغطة زر يمكنك أن تعثر في اليوتيوب دروسه وهو يشرح هذه النصوص حين كان في البحرين، والأكيد أن طلابه مازالوا يواصلون رسالته، وربما أحدهم يعد عدته لتفجير الجمعة القادمة.

بين فكر متشدد تكفيري وفكر يدعو إلى الانفتاح والعقلانية وجدت الصورتان على السواء، ما قضية الأوطان مع الأفكار؟
الوطن هو فعلاً فكرة، فكرة الوطن في زمن الخلافة الإسلامية، ليست هي نفسها فكرة الوطن اليوم بعد أن راح عشرات المفكرين والفلاسفة يصوغون مفاهيم: المواطنة، العقد الاجتماعي، السلطات الثلاث، التعددية، الدستور، وقد دفعوا حياتهم ثمناً لهذه الأفكار.
ما زلنا نصارع من أجل بلورة الوطن واقعاً حقيقيا نعيش فيه، وأعني المعنى المباشر لكلمة صراع الذي يهدف إلى تحقيق اعتراف، اعتراف بي كمكون للوطن، لا كتابع أو ملحق. أفهم وجود صورتي في قائمة واحدة في يناير 2015 مع منظر داعش في صحيفة رسمية في وطني، انتقاصاً من مواطنتي وما أنتمي إليه من طيف سياسي واجتماعي وديني.
وكما دفع روسو وفولتير وغيرهم حياتهم ثمناً لبلورة مفاهيم الدولة الحديثة، فعلينا كمثقفين وكمثقفين خليجيين خصوصا أن ندفع حياتنا ثمناً لتحقيق هذه المفاهيم في أوطاننا التي هي شبه أوطان.

أعلنت أنك "خارج الطائفة" يوما.. وها أنت "خارج الوطن". ألم تكن متهيئا لذلك وعدّتك الفكر ومناقشة التراث؟
،لم تكفرني طائفتي حين كتبت كتابي، ولم تهدر دمي، ولم أعزل اجتماعياً، أقصى ما حدث كان صراعات كلامية، لكني حين صرت (خارج السلطة) أصبحت في دائرة الاستهداف وأسقطت جنسيتي. المحنة تلاحق

المثقف حين يكون (خارج السلطة أو السلطنة) ومنذ الخلافة الإسلامية، تمّ تحديد الكافر بأنه الخارج عن سلطة الخليفة، وخطاب التكفير مصاغ في تراثنا على هذا المقاس، وما زال حتى اليوم مقاساً فاعلاً، وأستطيع القول من جانب ما، إن التكفير في عصر الخلافة بمثابة إسقاط الجنسية في عصر الدولة الوطنية، وكلاهما يستخدمان أداة ضد المعارضين لسياسة الخليفة أو سياسة الحاكم.
(الغزالي) مثلا كتب نصوص التكفير بإملاء الوزير السلجوقي الداهية، نظام الملك، وقد صاغ خطاباً فقهياً اعتبر فيه معارضي السلاجقة والخلافة العباسية مرتدين، يجب قتلهم وسبيهم، هكذا بجرة فتوى صارت الدولة الفاطمية بعظمتها خارج الإسلام، ومن يؤمن بخلافتها كافر مرتد.


ما وجه المقارنة بين "التوحش" سلوكا بدائيا للكائن الحي ومناقشة "نصوص" هي نتاج تراث متراكم من الاجتهادات والتفقه الديني بعملية فكرية مقابلة؟
يحيل موضوع التوحش إلى عالم الحيوان، حيث لا مكان لعقل يتحكم بغريزة. وتوحش الإنسان يتحقق بفقدانه لعقله فيغدو مسيَّراً بالغريزة. وبالعادة الغرائز تضيق بالآخر وتتسع للأنا، فيها الأنانية والعنف. يلفتنا الفيلسوف سلوترداك في كتابه (بنك الغضب) إلى أن طاقة الغضب التي في الإنسان وما يرتبط بها من دوافع أولية مثل الفخر والاعتزاز والانتقام والحسد والغيرة والتنافس، هي عرضة للاستثمار، عبر الخطابات التي تفجرها.
في العام 2000، قدم الصديق الأكاديمي السعودي معجب الزهراني قراءة نقدية لكتاب أبي حامد الغزالي (التبر المسبوك في نصيحة الملوك) وكان عنوان المقاربة النقدية: "فكر التوحش". نقد الزهراني توحش نص الغزالي اتجاه المرأة، وأنا فككت نصوص توحش الغزالي التي توجب سبي المرأة وقتل ابنها وزوجها حين يكون زوجها ضد سلطة الخليفة العباسي.
وقريب من مفهوم التوحش ما تناوله تزفيتان تودوروف، المفكر البلغاري-الفرنسي، الذي عانى من توحش النظام الشيوعي في موطنه بلغاريا. تحدث عن "الخوف من البرابرة"، ووصف البربرية بأنها حالة نفي الإنسانية عن الآخر.

ركزت على دراسة وتفكيك النصوص التراثية في كتابيك السابقين وانتهاء بالكتاب الأخير؛ ما الذي ترتئيه من مشروعك النقدي؟
لقد فتح مفكرون كبار في ثقافتنا مجالا معرفيا جديدا في نقد التراث من أمثال محمد أركون وجورج طرابيشي ونصر حامد أبو زيد ومحمد عابد الجابري وعبدالله العروي، وما كانوا يحذرون منه مما هو مختبئ في نصوص التراث قد انفجر اليوم، وعلينا أن نواصل منهجهم النقدي ونستفيد من إسهاماتهم.
النقد هو ممارسة تفكيكية، بمعنى أنك تفك الأفكار المكونة حول الموضوعات، لتحررها، على سبيل المثال، في كتابي نصوص متوحشة، ذهبت لكتاب الغزالي (فضائح الباطنية) وبينت أن الأفكار التي بناها حول كفر الإسماعيليين والفاطميين ووجوب قتلهم وقتل نسائهم، هي أفكار سياسية، وأنه كتب هذا الكتاب في بلاط السلاجقة الذين كانوا على عداء سياسي مع الفاطميين، وعليه فما توصل له الغزالي من استدلالات فقهية، هي في حقيقتها سياسية ولا تلزمنا، وعلينا أن ننفك منها لنخلص عصرنا من موروث حروب السلاجقة.


كيف يمكن أن نكوّن مقاربة بين الكتب التراثية والحداثة، أو سمات العصر الحديث؟
عليك أن تخرج منها أولاً، ثم تجعلها موضوعاً للاشتغال النقدي، أو أنك ستتسمم بها وتموت وتميت الآخرين معك. المثال الأكثر وضوحاً هنا هو بعض الجامعات السعودية المتخصصة في الدراسات الإسلامية، تستميت في في تحقيق كتب ابن تيمية وفتاويه وتعممها وتعد حولها مئات الدراسات، لكن ليس بهدف فهمها كجزء من التراث والماضي، بل بغرض بعثها والعيش عليها والتعلم منها وإنتاج نسخة من الإسلام مطابقة لها، تحت عنوان الإسلام السلفي أو الإسلام الحنبلي أو إسلام العصر الذهبي: إسلام النبي والصحابة والتابعين وتابعي التابعين. الموت الذي نعيشه اليوم هو نتيجة
للموت الذي بعثناه من نصوص ابن تيمية، والقنابل التي تفجر اليوم في أجساد المصلين، شفراتها منصوص عليها في حروف ابن تيمية المتوحشة. يقول محقق كتاب ابن تيمية (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم) "أما بعد فهذا الكتاب قنبلة من أقوى ما ألقى شيخ الإسلام على حزب الشيطان من قنابل الحق والهدى"


ماذا تعني بعنوان الكتاب الفرعي (التكفير من أرثوذكسية السلاجقة إلى سلفية ابن تيمية)؟
أظن أن التكفير صار سياسة ممنهجة ضمن إدارة الدولة ومصالحها، في القرن الخامس الهجري، حين وصل السلاجقة إلى بغداد 447 هـ/ 1055م وصارت الخلافة العباسية تحت سلطتهم.
هذا لا يعني أن السلاجقة اخترعوا التكفير، أو المعنى الأحادي لمفهوم سنة النبي، فقبل أن يدخلوا إلى بغداد كان هناك المعتقد القادري الذي هو النموذج الرسمي المقنن للمعتقد الصحيح لسنة النبي، وهو مرسوم أصدره الخليفة العباسي القادر بالله، وفيه يحدد مفهوم الألوهية والصفات والأسماء المثبتة لله، ومفهوم الإيمان والكفر، والاعتقاد الواجب تجاه الله وتجاه الصحابة.
وجد السلاجقة مهمتهم في الدفاع عن الإسلام والسنة، تتمثل في تبني هذا الاعتقاد والدفاع عنه، كان هذا المعتقد يُخرج ويقرأ على الناس في المشاهد والمجامع العامة، وفي المساجد والجوامع، وعند حدوث الاضطرابات والنزاعات العقدية بين الفرق والمذاهب، اعتبر هذا اعتقاد المسلمين، ومن خالفه فقد فسق وكفر.


لكن ما نعرفه من تاريخنا إن هناك مدارس فكرية متعددة ومتنوعة واتجاهات في علم الكلام؟
مع دخول السلاجقة الجهاديين الذين لم تكن لديهم أي خلفية حضارية أو ثقافية، تمّ إسكات جميع الأصوات المختلفة خصوصا أصوات المعتزلة والشيعة، والمدارس الّتي أُنْشِئت منذ العصر السلجوقي، وهي المدارس النظامية، والمدارس النورية في عهد نور الدين زنكي، ومدارس صلاح الدين الأيوبي، كلّ هذه المدارس تكاد لا تخرج على هذا المعتقد "الأرثوذكسي"، ولا مكان فيها للفلسفة وعلم الكلام أو لتدريس المذاهب المختلفة، لم يخرج عن ذلك غير مدراس قليلة مثل المدارس التي عرفتها مصر في العهد الفاطمي، قبل أن يأتي صلاح الدين ويغلقها.
لقد عملت الدولة الزنكية والدولة الأيوبية باعتبارهما امتدادات مباشرة للدولة السلجوقية، على نشر (السنة أو الأرثوذكسية السلجوقية) على جغرافيا أوسع، امتدت إلى الشام ومصر.


ماذا تعني بالسنة أو الأرثوذكسية السلجوقية؟
يعتبر المفكر الجزائري محمد أركون، أول من أستخدم  مصطلح تفكيك "الأرثوذكسية" في قراءته للتراث الإسلامي و"الأرثوذكسية" في معناها الحرفي تشير إلى الطريق المستقيم؛ بما يتقاطع مع مفهوم الفرقة الناجية والسلفية، والطريق المستقيم هو بمثابة السنّة الصحيحة المعتمدة من قبل السلطة السياسية.
احتاج السلاجقة إلى جيش من الفقهاء والقضاة والعلماء والخطباء والمحدثين، لتثبيت مهمتهم الدينية المتمثلة في الدفاع عن السنة الرسمية وتثبيت (الأرثوكسية السنية السلجوقية) وهذه المهمة تعطي لوجودهم شرعية وتعطي لحروبهم ضد أعداء الخلافة العباسية شرعية مضاعفة.
السلاجقة المعروفون بأنهم جماعات قتالية، أخذتهم شهوة الجهاد، وأعطوا ل(السنة) مفهوما أحاديا وقطيعا لا يقبل التعدد والاختلاف، صارت (السنة) أيديولوجيا جهادية، مشبعة بشهوة القتل وغريزة التوحش.

هل يمكن اعتبار الجماعات المتشددة الحالية امتدادا للسلاجقة؟
أنا أعتبرها كذلك في جانب من جوانبها، فالسلاجقة جماعات مقاتلة لم تكن تجيد حتى العربية، ليس لديها خلفيات ثقافية، وجدت لذتها في الجهاد والقتال. جيوش السلاجقة وجدت في (تثبيت الأرثوذكسية السنية) فرصة لتثبيت شرعيتها في العالم الإسلامي السني، فالسلاجقة كمحاربين أتراك أشداء كانوا يفتقدون إلى العمق الحضاري أو الثقافي الذي يعطي لوجودهم معنى، إضافة إلى أنّهم بحاجة إلى شرعية تجعل من سلطتهم مبررة تحت مظلة الخليفة العباسي.
وقبل أن يجدوا في الصليبيين العدو الذي يهدد الإسلام والخلافة الشرعية، وجدوا ذلك في الباطنية، وحين بدأت الحروب الصليبية تمّ توسيع دائرة العدو، فألحق الباطنية بالصليبيين، وتم تعميم صورة أكثر تشويهاً للفاطميين، فاعتبروا خونة وحلفاء مع الصليبيين وسببا في هزيمة المسلمين واحتلال بيت المقدس.
لقد خلعت (الأرثوذكسية السنية السلجوقية) مدعومة بالسلطة السياسية (السلاجقة، الزنكيون، الأيوبيون) كل المعاني التأثيمية على كلمة (باطني)، وصار معنى السنة يتوضح بمعارضته لمدلول (الباطنية) التي صارت تدل على معاني متعددة وربما متضاربة من نحو: كافر، مرتد، منافق، إسماعيلي، فاطمي، رافضي، شيعي، يضمر الشر للإسلام، معادي للسنة، يكفر الصحابة، عدو، خائن، متهتك، ضال، مبتدع.
صار الجهاد هو القيمة الأكثر حضوراً فترة الحكم السلجوقي وما انبثق عنه من حكم الزنكيين والأيوبيين، وصارت الأرثوذكسية السنية كما تبناها هؤلاء هي الأيديلوجيا المعبرة عن فكرة الجهاد، فصار قتال الصليبين والباطنيية مهمة جهادية أولى.
شهوة الجهاد عند المقاتلين الأتراك أعطت ل(السنة الصحيحة) مفهوما قاطعا كحد السيف، لا يقبل التعدد والاختلاف. فراحوا يوحدون الجغرافيا والأفكار والعقائد. هكذا تداخلت العملية العسكرية مع العملية الدينية عبر تجيير جيش من العلماء والقضاة والمحدثين والفقهاء وكتاب التاريخ، ليكتبوا بأقلامهم حدود العداوة والتكفير التي رسمها سيف الجهاديين الذين كانوا حماة الخلافة الإسلامية وشوكتها كما عبر الغزالي.  

تعليقات

المشاركات الشائعة