اغتيال عبدالرحمن منيف "الآن..هنا".. لماذا؟
اغتيال
عبدالرحمن منيف "الآن..هنا".. لماذا؟
أفراح الهندال
لم تكن مفردة "الانتحال" وما تحمله من
دلالة السطو وادعاء الملكية صادمة بقدر موضوع ومحور المقال الذي نشره الكاتب
العراقي فالح عبدالجبار في صحيفة الحياة قبل أيام بعنوان "مذكرات السجين العراقي حيدر الشيخ علي ينتحلها عبد الرحمن منيف ويُسقط الاسم"، حيث بدا
العنوان إثارة صحفية ركيكة لا قبول لها بين قرّاء أدب منيف الذي لم يبدأ مع هذه
الرواية قطعاً ولم ينته بها كذلك، وأكد الكاتب العراقي ذلك مستدركا في تنبيه نشره في
صفحته "فيسبوك"؛ مشيرا إلى تصرف محرر الصفحة في المقال وتغييره العنوان،
وربما يبدو الأمر طبيعيا ومسوَّغا مقابل إشارة الكاتب ضمن مقاله إلى "حق
الملكية الغائب" بسبب حصول منيف على التسجيلات الصوتية كاملة و"سلب
الهوية والتجربة الشخصية في السجن" عندما استخدمها في روايته من دون إشارة
إلى صاحبها!
لست في معرض البحث عن أسباب المقال أو حتى قراءة
حيثيات التجربة كاملة وعلائقها ما بين الروائي الراحل والكاتب وصديقه صاحب
المذكرات، فهذا ما يعجز عنه من لم يواكب تاريخهم الحافل بأسى السجون والترحال
والأحداث السياسية والمتغيرات؛ لكن هذا المقال موقف قارئ أدرك ولو القليل من تجربة
عبدالرحمن منيف وأساليبه السردية ليلتقط منها إجابة.
فما أراده
الكاتب "شهادةً" في حق صاحب المذكرات الشيوعي العراقي حيدر الشيخ علي والتي
استمد منها منيف مادة روايته "الآن..هنا" كما يذكر؛ جعله في موقف المدعي
على الروائي الراحل في محاكمة تنبش القبور وتغتال ما تبقى من ذكريات وعلاقة وطيدة
كانت السبب الأول في حصول منيف على شرائط المذكرات كاملة، والاستلهام منها حتى
نشرها.
كان ذلك قرابة ثلاثة عقود، حتى ورده الاتصال الحزين
الآسف لتغييب اسم صاحب التجربة، ليدفعه بعجالة إلى الكتابة تبريرا لسبب اختفاء
الشرائط وعدم إرجاعها، وعدم تدوينها كما أراد لها صاحبها - كتاب وقائع، بلا تزويقات،
بلا رتوش- بينما كان منيف في الوقت نفسه مخلصا بتوظيفها لتعرية الظلم وكشف سجون
"شرق المتوسط مرة أخرى" وتصوير عذاباتها خلال عام واحد، لينتهي من كتابة روايته ويرسل نسخة إلى
بطل الرواية حيدر الشيخ علي –إن صحت الحكاية- وهي
تحمل إهداءً بخط يده: «ربَّ أخ لك لم تلده أمك»، وهو الشعور الذي يتقاطع مع
جمل وردت في الصفحات الأولى لروايته التي كانت تحكي لقاء مريضين خارجين من تجربة
السجن ليصبحا صديقين: "إن الغريب للغريب نسيب وقريب وحبيب"، وليسترسل في
وصف هذه العلاقة و"تولّد اللغة الشفافة شديدة الحساسية والنفاذ لتخلق حالة من
التفاهم، ما يزيد قوة ومتانة عن علاقات العالم الخارجي"(الآن..هنا ص13). ويؤكدها في
عبارة أخرى "الإنسان يعثر على نفسه في الآخرين، ويحدد ما هو قوي ومشترك
بينهم".
ويكمل في
روايته بإشارات مهمة تؤكد ضرورة تدوين ما يحدث في السجون: "ولأن السجن قد علمنا ألا نستعجل الأشياء، لأننا لو
فعلنا فلا بد أن ندفع الثمن غاليا وقبل الأوان، خاصة وأن السجين لا يعرف عدوه أغلب
الأحيان، إذ يهجم على من يواجهه، من يتحداه، ولذلك لم أستعجله لأن يتكلم".
وفي موضع آخر: "بعد مناقشاتنا حول السجن،
ولكي نخلق ذاكرة إضافية لدى الناس، قررت أن أكتب عن هذه التجربة، وكتبت!".
ثم يبين أهمية تسجيل "هذه التجربة بكل صدق
وجرأة" أما "مسألة نشرها، إن كانت تستحق النشر، مرهونة بالظروف
المناسبة"، "وهذا ما ينساه الكثيرون، فالذاكرة مهما كانت قوية فإنها
أشبه بالغربال، والظروف مثل الفصول تتقلب وتتفاوت كثيرا، ولذلك لا يستطيع الإنسان
التوفيق بين ما يريده وما يقدر عليه، وهنا يقع الخطأ الكبير، إذ يتصور الكثيرون أن
الوقت المناسب سيأتي، إن عاجلا أو آجلا، وعندها سوف يدلون بشهاداتهم الكاملة دون
خوف، وأظن أن أغلب هؤلاء لن يعيشوا لكي يدلوا بهذه الشهادات.. سيذهبون وتذهب معهم
وقائع كثيرة وهامة كان يفترض أن تبقى".
والمفارقة أن كاتب السطور أراد لعادل البقاء فكان "الخالدي"، ورحل تاركا مناجيات
السجناء وعذاباتهم ذكريات خاصة لعابريها حتى بعد أن أنهوا قراءتها، وذلك لهاجس
التذكير والتنبيه والتغيير الذي أراده بهذا التدوين "السري/المتكتم"، وفي
جانب آخر من حوار شخوص الرواية يؤكد: "لماذا لا يكتفي الناس في بلادنا بهذه
الذاكرة الشفوية وحدها طريقة للتعلم والتواصل ثم التاريخ؟ اللغة السرية في بلادنا
وحدها اللغة المتداولة، وهي نتيجة السجن الطويل" (ص26)
هل قرأ
الكاتب والباحث فالح عبدالجبار هذه الصفحات؟؟ ألم يجد فيها إجابة لكتابة شهادته برد الاعتبار
لصاحب المذكرات مكتفيا بالإفصاح عن اسمه مع التنويه إلى سبب التكتم عليه في ظل
ظروف تلك الفترة وضرورة الرمزية و"اللغة السرية" لتدوينها؟
ولا أعرف إن كان السرد الشفاهي المسجل في الشرائط
قريبا من شكل العمل الأدبي "الآن..هنا" سواء كان مستندا على المذكرات أو غيرها ومستكملا باشتغاله الأدبي التخييلي، أو كان معتمدا
"اعتماداً شبه كامل على ذكريات حيدر" كما ذكر في المقال.. لكن هل
غابت المذكرات الشخصية عن الرواية أصلا؟
فأهم محركات الرواية هو حضور المذكرات الشخصية بشكل
أساس لتنطلق منها الأحداث، فالبطل "عادل
الخالدي" نشر أوراق "طالع العريفي" التي كتبها في "براغ"
بناء على إلحاحٍ من "عادل". أما عادل نفسه، وهو الشخصية المحورية
الثانية في (الآن... هنا) يتذكر هوامش أيامه الحزينة عن السجن، وهو مقيم في باريس"
كما أشار د.عادل فريحات في دراسته "السجن السياسي في روايات عبدالرحمن
منيف"، ولمح فيها بذكاء ضمن تساؤلاته عما إذا كان "الروائي عبد الرحمن
منيف قد دخل السجن، وعاين بعضاً من هذه العذابات؛ أم أنّه قرأها في مذكرات بعض
السجناء السياسيين؟ أم سمعها من أفواههم على نحو أو آخر ثم أعمل الخيال في سد
الثغرات ولحم الأجزاء وتكوين الصورة؟" من دون أن يشكك في صدقيتها الفنية
وجمالها الأدبي.
مغيبين بشكل
مقصود
وإذا كانت
المشكلة تتحدد في غياب "اسم صاحب المذكرات" من إهداء منيف أو كلمة
سعدالله ونوس في المقدمة، فلمنيف إجابة دقيقة كأنها تدرك ما سيثار حول شخصيات
رواياته، وردت ضمن حوار منشور له في موقع "قنطرة" : " حاولت في
رواياتي تقديم صورة عن الحياة في تجلياتها الأدقّ وربما الأعمق، ومن هنا فأنّي
أعتبر الحياة بمثابة مسيرة طويلة وبشر متنوعين، والبطولة هي بطولة الناس
المجهولين، أي الناس المغيّبين بشكل مقصود"،"
ولم أردّ في الواقع أن أصدم القارئ ، لكني أردت أن أبصرّه أكثر، وأقول له إنّ
المشكلة فيها وجع وفيها فجيعة وتتطلب انتباها بالضرورة"، "وأنا أتصوّر أن مهمة العمل الفنّي هي مهمة مزدوجة، فعليه من
ناحية أن يعمّق وعي الناس بالمشاكل، وعليه من ناحية أخرى أن يضاعف من حساسيتهم في
التعامل معها، وليس مهمته التبشير وطرح الحلول، ويعني أنّك كلما تخلق قلقاً
إيجابياً عند الآخرين تدفعهم إلى التساؤل، وكلما حاولت معهم لكي يفهموا واقعهم
برؤية أوضح فإنّ العمل الفنّي يخدم حينئذ المرحلة ويخدم الناس والفنّ. فالقضية
ليست استدرار عطف أو محاولة تبرير مواقف، وليست قضية دفاع عن شخصيات منفردة
ومعزولة، وإنما هي رسم بانورامي للحياة في مرحلة معيّنة بما يتخللها من صعوبات
وخيبات أمل وأحلام مكسورة. وهي أخيراً صورة أو مجموعة صور، وبالتالي مطلوب من
القارئ أن يعيد تركيبها من جديد".
ولعل "الآن..هنا"
ثمة إعادة تركيب -بعيدا عن الاتهام- من جديد !
تعليقات
إرسال تعليق