وليمة على مقبرة "مگارید" العالم..

كتاب المگارید ": حكايات من سرداب المجتمع العراقي

لا يمكن أن تكتُبَ عن الكِتاب الذي نادَمَكَ عَميقاً.. بأسلوبٍ مُمنهجٍ عِلمي وبِمعزلٍ عن آثارِهِ في روحِك، كنتُ أعلمُ أني تورّطتُ بهذا الكِتاب، عَثرت عليهِ بين رفوفِ المكتبةِ التي دَخلتُها بَعد انتظارٍ طويلٍ مُنذ الصباح الباكِر، وما إن لَمحتُ عُنوانَه حَتى عرفتُ أنّ قلبي تَدحرجَ بين الأقدامِ الصّغيرة التي اعتَلتْ صورة  الغلاف  للأطفالِ بأسْمالِهِم المُهترئة، "كتاب المگارید ": حكايات من سرداب المجتمع العراقي" للأديب والباحث العراقي محمد غازي الأخرس.


  جلستُ على العَتبة التي تتوسّط المكتبة، ورغم أن الكتاب يتناول سيرة المُهاجرين من المُدن الفقيرة في جنوب العراق الذين زحفوا إلى بغداد؛ إلا أن مُتوالية الشقاء في حِكاياتهم غَمَرتْني بعُصارتها، خَفقان قلبي يدوّي بين أذنيّ، أصواتهم تتعالى أكثر فأكثر، خليط حزين لأصوات ِالمُهمشين الفقراء بين جَدل التعايش وخيبات الأمل، والأحزان المُتجددة والأحلام التي لا تنتهي، "كتلة من كل هذا تذوب في بوتقة الغيب، ذلك الآتي غدا أو بعد ألفِ عام: الله كريم!".

لم يخفِ الباحث محمد الأخرس تأثّره في منهجية عالم الاجتماع العراقي د.علي الوردي، وأطروحات محمد عابد الجابري وكارل يونغ وميشيل فوكو وريمون وليامز  وسيغموند فرويد وجيمس فريزر وغيرهم من الذين أطلقوا أبعاد رُؤيته التي أراد المُضيّ فيها، لكنه كما ذكرَ في أحد لقاءاته أنه "جَهِد ليكونَ وفياً لآرائه  لا للمناهج"، فلئِن رسمَ الوردي مَلامح الفرد العراقي ما بين المدينةِ والريف والبادية بعيدا عن انتمائِه  ليشخّص الواقع ضمن اشتغالهِ في ميدان علم الاجتماع؛ فإن الباحث محمد الأخرس توغّل فيهِ بذاته، فالواقع أكثر بُؤسا من تشريحِه، وهو مضمّخ بوجع الأرض لم يَنفض ثوبَه لتَرحاب المدينة، هو أحدُ أولئك المگارید الذين تشاركوا حكايات الكتاب، مرّر مشاهدَ من سيرته وحكايات الآخرين الذين عانوا جحيم الحروب والتّرحال والتهميش والهجرة.. ووقفوا عند "بابِ الفَرَج" جميعا.

حكايات حقيقية تمثل كنزا للكتابة الأدبية، لكنه تَسامى فلم يستغلّها لتوظيفها مُجرّدةً من شخوصها،  بل عالجها بأسلوبه الأدبي المُدهش واشتغال الشاعر في نحْتِ اللغة، بما لا يُقصيهم عن حقيقة وضعِهم، كي لا يَطوي النسيان ذكراهم في خِضم العَمل الأدبي، وبِوعْي الباحث تناولَ تلك الشريحةِ مَوضوعا بَحثيا، مُعتمدا  على حَقل التقصّي  ومونوغرافيا  البيئة التي عايَشَها، والمشاهد التي عايَنَها، والمُتون الحَكائية السّردية التي جَمَعها وأوْجزها مُركزا على دِلالاتها، وكأنه تحقيق ميداني تخلّص من الجداول والاستبانات واكتفى بالأدلة والمُعطيات التي تصِف الظواهر كاملة، فمكّن القارئ من الاطلاع على مشهدية المجتمع المنبوذ متجانساً بنفسه هويةً ولغةً وعادات وطقوسا تعيد ثقافتها،  محافظا على بنيته المتماسكة بالمساكن المتجاورة التي انتقلت من الجنوب بشكلها القديم إلى عمران المدينة الجديدة "بغداد"، ليتشظى  بالفروقات الاجتماعية التي حرصت على إبقائه في القاع،  عالج الأخرس ذلك بخطين متوازيين ما بين هاجس الهم الإنساني لقضيتهم، والمحمول الثقافي لوجودهم العميق وأدبياته بمخزون وافر من السرديات الشعبية والنخبوية والمأثورات باللهجة الدارجة.


سرداب المگارید

تتبع الأخرس أصل كلمة "الگرادة" انطلاقا من مفردة "الكرد" في المعاجم العربية، أي بمعنى "الطرد"، وحضورها في الفارسية بمعنى "سيئ الحظ"،  مرورا بالبَقَر الذي امتصّ دَمَه "الگراد" فأصابه الهُزال، واقترانها بالناس "سيئي الحظ المأكول حقّهم وقليلي الحيلة"؛ مشيرا إلى التغييرات الصرفية والفونيمية  للمفردة، ودلالاتها في المجتمعات العربية -الكويتية والمصرية على وجه الخصوص-.
ووصف ملامح هؤلاء المگاريد المتشابهة، فهم "ملحان،... ملامحهم حزينة حتى لكأنها خُطّت بقلم من الفَحم، يسيرون (الراگ راگ)  مُنكسري الظهور، مُطرقين برؤوسهم إلى الأرض لا إلى السّماء، إذا ناديتهم جَفلوا خوفا، وإذا أطلتَ إليهم النظر حَسبوك عَدُوًّا فعادوا إلى الإطراق تهرّبا وهم يقولون: (خير  إن شاء الله!)، أما إذا اقتربتَ منهم فستسمع دون شكّ دنْدنةً ما مُوجهة إلى الرّب؛ (ربِّ اسْترنا بِسِتْرك)، وإذا اقتربت أكثر يمكن أن تسمعهم وهم يعاتبون القدر ويؤبّنون الحظ والبَخت، اعتقادا منهم أنّهما المَسؤولان عن المَصائِر في هذه الحياة الدُّنيا"، وهكذا ما بين تواضع أحلامِهم و"انتظار فرجٍ قد لا يأتي، ومنقذٍ ربما يتأخر"


حظوظ مفقودة

الكتاب يستدرج "المگرودية" التي تقبع في روح كل قارئ، كلٌ بحسب حظه؛ ما بين "صاحب الحظ الگاعد، مقابل صاحب الحظ المصخّم والملطّم، المُنكفئ على وجهِهِ" وصاحب الحظ المُتذمر دوماً لأن "نايمة عليه الطابوگة"، وصاحب الحظ المفقود الباحث عنه حتى يجده "في ركنٍ قصيّ مُنكفئ على وجهه، يكسر الخاطر. يذهب إليه لتَعديله فيفشل"، مؤكدا على الخلاصة التي توصل إليها الذهن الشعبي في أن الحظ "قدرٌ مكتوبٌ ومن العبثِ تغييرُه".


وقود السياسة

واستحضارا لدور هؤلاء المُهمّشينَ على حافةِ العالم ؛ أشارَ الأخرس إلى علاقتهم الوَطيدة بكل تغيير في المعترك السياسي ، وهو ما نراه إلى اليوم على المسرح المشتعل في أنحاء الوطن العربي غالبه: "..بِهِم (يزامط) القادة، وعليهم تدورُ الدوائر إذا نَشَب الصّراع، لكن ما إن تنجح ثورة ما حتى يُطردوا من فِردوسها إلى شرق عدن"، واصفاً إياهم " أقدام لا تقوى على حَمْل نفسها، وأجساد تتلفلف بالأسمال. الملامح فاترة والجدل مع العالم والكون والحياة والآخرة"، هم الذين إذا دخل أحدهم مجلسا قيل له: "مكانَك، في حين يقال للغنيّ: هَلا ومَرحبا"، وهُم "ربما كانوا العدميّين الأكثر تبدياً أمامَ عدساتِنا اللاهِية" التي تلتقطهم بدهْشةِ المُفارقة "مگرود يَبتسم!" قبل أن تفرّ شفتاه من هؤلاء الفضوليين البطرانين المهووسين بالتصوير.


تراجيديا القاع

اقتباساتي من الكتاب التقاطاتٌ لا تتجاوزُ فصوله الأولى، بينما يستكمل الأخرس في كتابه  المقاربات الاستدلالية بواقع هؤلاء المهمشين بسطائهم ومثقفيهم وموجز لتفاصيل منجزهم، أكملها في كتاب ثانٍ عنوانه " دفاتر خردة فروش، العوالم السفلية للمجتمع العراقي"الصادر عن دار التنوير ، استكمالاً لمشروعه التوثيقي وبرؤيته الأنثروبولوجية لتراجيديا هذا القاع، الممتد في إصداراته الأخرى: خريف المثقف العراقي، قصخون الغرام.. في متخيل العشاق وأنثربولوجيا الأنوثة، السيرة والعنف الثقافي.. مذكرات شعراء الحداثة بالعراق.
 إضافة إلى روايته: ليلة المعاطف الرئاسية، وديوانه الشعري  "شمعون.. نصوص حرجة".

لم أنتهِ من القراءة حتى بدأت ألاحظ حوْمة العاملين في المكتبة الذين طلبوا مني التعجّل لدَفع الحِساب والخروج بسبب انتهاءِ موعد العمل، لم أقوَ الوقوف، انتشلتُ نفسي انتشالا من طَمي "المگاريد" وأحزانِهِم ، صُعقتُ بعد خروجي بالوُجوه الصهباء والحافلات الحُمْر العالية، ما زلتُ في لندن!

أفراح الهندال

تعليقات

  1. تحية طيبة...
    عرض ممتع لكتاب مختلف عن البقية في كونه لا يتكلم عن علية القوم بل عن الطبقات السلفى في ترتيبه والتي غالبا ما تكون مهملة في مدونات ونصوص المؤرخين والأدباء إلا نادرا...نحتاج الى تلك النوعية من الكتب وعلى شاكلة أدب السجون والمنافي التي شاعت في العقود الأخيرة...

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة