انعتاق الغريب: روحٌ تصعد .. مطرٌ يسقط



قراءة في رواية "مقبرة الغرباء" للكاتب جهاد محمد


أفراح الهندال




تحشرجت الصور في ذاكرتي حين سألني شاب عربي في القاهرة: أ تعرفين جهاد؟ ضجيج رُوّاد معرض الكتاب خبا في لحظة، أكمل الشاب: قلتِ أنكِ من الكويت، وجهاد منها، وهذا الكتاب من جهاد..
استلمت الكتاب وصورته حاضرة في ذهني، جهاد الذي يشبه حنظلة، الطفل الذي كشف عن وَجهه في رواية حُب حزينةٍ ثم هرولَ في خريطة الوَجع لِسنوات؛ عاد اسماً على شاهد قبر.
هنا لا أكتب دراسة نقدية، هي قراءة ، أو زيارة قبر محفوفة بالدعاء.


انعتاق
من العتبة الأولى لـ"مقبرة الغرباء" الصادرة عن دار بيسان اللبنانية، يحيلنا العنوان إلى شتات الأراضي، كم مقبرة في الوطن العربي تحمل الاسم ذاته؟ في دمشق وطرابلس اللبنانية وجرجيس التونسية، هي ذلك الشاهد على المنبوذين والمبعدين عن أوطانهم وضحايا الحروب الذين لم يجدوا موئلا أكثر قداسة من تلك الأرض التي ترنو إلى السلام رغم وابل الحروب فوقها، و"مقبرة الغرباء" في الرواية هو اسمها بكل دقة مقرونا برفات الشاعر محمد مهدي الجواهري كما ذكر خلال السرد، أو كما حكت سيرة نبذَ أولئك البؤساء الذين لفّوا العالم باجتراحات الرحيل حتى استقبلتهم فيها، هي مغارة المقبرة الصادقة الصدوقة/الأمان.. وهي غور بئر يوسف والمدلسين.

مقبرة الغرباء استعارة تصريحية، أما صورة الغلاف، فهي كينونة الهوية والدالة للانتماء الطبقي، لها ملامح تلك المقبرة مع توالي النبض الحيّ، تعبر عنه الأرض الصحراوية النابتة بفعل الطبيعة، والطفل الواقف في المنتصف مواجها البيوت بصورة تبدو واضحة الربط، "ها أنتم الأحياء الأموات قد خرج منكم طفل يدافع عن الأموات الأحياء" (ص26).

فبين الصليبية والمقبرة في سوريا مطر يسقط في الأولى غرقاً، وفي الثانية "تمطر قذائف هاون" (ص49)، وبينهما سَبْر متن الحكاية وتغوّل السرد فيها عبر 150 صفحة في ستة فصول؛ توزعت فصولها متماثلة مع الانعتاق المتصاعد بحجم العذابات، معابرها: "سقف"، "غيمة"، "سما"، "فضا"، "الغلاف" ثم سقوط حُر في قلب "المقبرة"، بما يوحي بأن كل سقف يفضي إلى سقفٍ أكثر شساعة وتخلّقاً رغم ثقل حمولة الواقع البائس.

تلك المساكن الصغيرة ليست دخولاً إلى أرض "الموتى" أو "الأحياء الموتى" بقدر ما هو انعتاق من تلك البِنى المتراصة الضاجة بحكايات الغرباء، متشبث بسبيل المعيشة الواهن المليء بقطّاع طرق الحياة، رواية الإنسان لا رواية الخصومة، تجمع التناقضات التي شكلتها؛ المقبرة مقابل الحياة، وهي موئل الغرباء مقابل كل المعرفين الذين أشاحوا وجوههم كي لا ينظروا إليهم.

الصليبية المنسية
المنطقة التي عرفها العرب منذ القدم لتوفر الماء فيها، وهي تقترب من "تيماء" في خريطة الهمّ "البدونيّ"، وبينها والمدن الحديثة مفارق جلية بالتقاطات مدهشة للمصور بلال الفضلي ضمن سلسلة  التقاطات في "تيماء"و"الصليبية" ومن ضمنها صورة الغلاف، عبرت عن هذا التناقض الفادح ما بين الفقر والغنى، الصحراء والمدينة، "الحَيّات" التي تدُب تحت أرضها كما ذكر الأصفهاني في كتابه "بلاد العرب".. و"الحياة" التي تقاوم فوقها!

لم يعرف المصور الفنان أن التقاطاته ستتصدر هذا الكتاب تحديدا، ولم يعرف أن جهاد.. أو حنظلة كما قرأتُه، قد وُجد في طِفلها المُسمّر بالهَمّ، علامةً للخريطة.


فهي وإن توزعت في أربعة مناطق : "زراعية" لإمكانية الاستنبات فيها ولتوفر المياه في آبارها الارتوازية المكتشفة نهاية الخمسينيات، تناوشها الصليبية "الصناعية "و"الحرفية" و"السكنية" في مُوازنة غير عادلة، تلك المنطقة المَنسية لِزخم الروائح المنبعثة من أدخنة المصانع وسُيول المجاري والعنصرية الكريهة، وهي الرواية الوحيدة التي أشارت إلى هذه المنطقة البديلة – كتيْماء- لمساكن الصحراء العشوائية و"العشيش" لأبناء البادية الرحل من شمال الجزيرة العربية غالباً العام 1980 للمنطقة التي ضمت أكثر من أربعة آلاف بيت لا تتعدى مساحة الواحد منها 200 متر مربع لنحو 38929 نسمة.

أرض "القدور"
أما في الرواية؛ فتجيء الصليبية شكلاً متلاحماً للبيوت متداعية الهموم "حيث يذرف دمعتك الثانية جارك عنك، ويكمل جارك الآخر بقية ضحكتك"(ص10)، وحيث يتساقط كل شيء مع المطر في تلك القدور كما يلاحظ القارئ خلال مشاهدها، ليركض الأطفال الذين فتحوا أفواههم للسماء، والشبان محاولة النجاة من الغرق من السماء التي "تمطر مرتين"، والعجائز اللواتي بسطن كفوف أدعيتهن في مشاهد متنقلة، لتتخلق علاقة مجازية بين القدور و"الأقدار"، يستنجد شابّ : "خالة..أعطني المساحة"(ص11)، فتتوالى أسئلة القارئ وهو يعيش تلك الرؤى: ما الذي يصل منهم إلى السماء.. وما الذي "يمسحونه" يا ترى، والقدور المغمورة تغني "أنشودة المطر" والجياع والردى بصوت جديد!

بين عتبات المقابر
تمازج الرواية في استهلالها وخاتمتها سرد ذاكرة بطلتها جميلة الاسترجاعية، التي تؤكد حضورها مُدوِّنةً سيرة "جهاد" المُعلق في شخصيتين تتكشّفان خلال القراءة، في الصليبية وتحديدا عند باب غرفة ابن عمتها الراحل يبتدئ الحديث عنه متزامنا مع قدوم الطفل الجديد إلى البيت، لتتشكل الرواية خارجةً عن السّياق التقليدي للتذكر، فمِنَ النهاية المُفترضة تتسّع مساحة تأويل الاحتمالات، ومن تلك الاسترجاعات بين أماكن وأزمنة مختلفة في السرد الروائي، تظهر شخصيات الرواية الرئيسية والثانوية والمحايثة تباعاً: جهاد، الطفل، العمة، والد جهاد، شقيقه بشار، أخته، أبو ضرار، الجدة، طفلة الجيران، جوليا، كرميلا، المضيفة، شباب الجيران، عجوز الشارع البائسة، مدير المدرسة، الصحفيون، المهاجرون في القوارب، المحققون، موتى البحار والقبور، الأطفال الذين تمتلئ بهم الرواية، الحَمامات! لتنسِج خَلفية الشخصية المحورية واضحةً من خلال علاقة تلك الشخصيات، وتتلاشى التفاصيل تدريجيا لتصبح أكثر تَجريدا وهشاشة فيتكثف زمن الرواية خلال سَبع ساعات ما بين الثانية ظهراً حتى التاسعة مساءً، زمَن التذكر، "أفزعتني ذكراك، التي أصبحت مقالاً يجرُّ آخر، وقميصاً أسترُ به نصف جسدي، وحاسوباً محمولاً جربتُ فتحه بكل الأرقام والأسماء إلا اسمي!" (ص61).


مقبرة جماعية
شخصيات الرواية تتجه بمصائرها نحو مقبرة جماعية "كان الوطن أكبر ذنوبهم التي لم يقترفوها!" (ص68)، تنقل جهاد في عالم كان يتفتح أمامه منعتقا من سقف البيت، عبر غيمة السفر، في سماء لا تحد، وفضاء شائك عنون أغلفة أخبار العالم بعمله الحقوقي حتى استشهاده في عملية إرهابية، عاش خلاله قصتين متوازيتين مع قصة حب لم تُعلن وعلاقة أخرى بجوليا –ضحية الحرب والصورة المصغرة لصراع النظام والمعارضة في سوريا- موصومة بالخطيئة، كانت جميلة خلاصها بتضحية قاهرة في زواج عقيم مقترنا بأبي ضرار، صورة للعنصرية والنفوذ الطاغي لينال بالتبني/كسباً الوليد الخطيئة في نظر العالم ، المقدس الطاهر في نظر جميلة، صورة للعدالة التي فُقِئت عيناها وغضّت الطرف عن الكائن المنازع للبقاء "أزيح ركام الحرب عنك، ضحية حب أنا، شهيد سلام أنت، أحمل إليك غربة والدك ودموع أمك، وأوسّد على كتفي ابنك الذي أودَعته أمانة عندي" (ص145).
أما "الأم"، المرأة الكويتية المتزوجة من "بدون" ، أو الوطن الذي يعاني تجريح هويته بالانتماء ونزعه عن بعض أبنائه. الأب حاملا إعاقته الدائمة بسبب فقد ساقه إثر الغرغرينا، دفنها في بلد، وغادر منه إلى آخر، ممثلا تبعات بعض الأحداث السياسية التي تسببت بسلب خطواته عن أرض الوطن.
الأخت التي رحلت لاجئة بعد أخيها، حملت معها ضريبة الانتظار الطويل غير المفضي إلى حل، مرمزا بتأخر الزواج والحنين إلى الوطن.


تداعيات المكان والزمان
تبوح جميلة بنبرتها المنكسرة سِرها المَكتوم طِوال سنوات، لتدوّن ما حَدث حقاً، ينعتق السِّر أخيرا من سَقف بيت جهاد بقصة حُب من طرف واحد، متمازجا مع مُذكراته ومراسلاته وخطابات والده، لم يُرد جهاد إيقافها ربما لأنه كان على يقين من أنها مَلاذه الأخير، لهذا ترك اسمها مُفتتح كلمة السر لجهاز الحاسوب الذي تضمن الأسرار التي تحتاجها كلها، ولهذا استبقى في حضنها الطفل الذي وَصَلها أخيرا بعد ارتحالات الهِجرة التي تكبّدها جهاد نفسُهُ، لكن عائدا.

مَسارات الترحال هي ما يَرسُم تنامي الأحداث داخل المتن، وهي الرواية الوحيدة ضمن ما كتب في "أدب البدون" التي عالجت (كيفية) الخروج/الرحيل/الانعتاق بمختلف أشكاله.
 الإبعاد القسري لوالده إثر أحداث سِياسية ورّطت والده في الثمانينيات، إلى سوريا فالسويد، والهجرة غير الشرعية لشقيق جهاد إلى أندونيسيا نحو أستراليا، ومن في ذلك القارب من الكويت والعراق ولبنان وأفغانستان والهند، اللجوء الاختياري لشقيقته التي تزوجت وغادرت لاجئةً إلى النرويج، سفر جهاد مَبعوثاً صحفيا ضمن فريق حقوقيّ إلى سوريا وتعالق عمله مع قضية فلسطين وبعض تفاصيلها المتمثلة في شخصيات مشاركة في الرواية إضافة إلى استذكار مجازر الأكراد، ليستعيد بذلك كله مَجازا أسى كل المهاجرين بعذابات الحروب المُستعرة وطرق الرحيل والمُخيمات والقبور الجماعيةِ ويُذيبها في حِكايته.

من مشهدية المخيمات السورية: "تصوّر أن يكون الوطن حلمك وكابوسك، أن يتحوّل منزلك من اسمٍ إلى فعل ماض! تصوّر أنك بعتَ وطنك لتشتري حريةً. تصوّر أنهم باعوك مخيّم شتات وقنابل غاز سارين وفايروس شلل الأطفال. تصوّر أن جارك بردان، وأنت بردان، وجاركم الثالث صقيع. تصور أن يكون المطر الذي ينخر خيمتكم شقيقك، والشمس أمك. تصور أن تكون أوراق الجرائد جدرانكم، تصوّر أن تشتهي قراءة كلمة دون أن تستطيع، فتطلب من والدك قراءتها لك. تصوّر أن يكون في الجريدة تصريح لمسؤول عربي يعرب فيه عن ألمه لضحايا فيضان في نيكاراغوا! تصوّر أن يكون اسم المسؤول: نبيل! تصوّر أن تكون كنيته: العربي! (ص66)


عتبة الذاكرة.. شاهد اللغة
اللغة بطل أساسي في النص، وعمود البنيان السّردي، وما جاء على لِسان جميلة استطرادٌ بلغة شِعرية تقصّدت الإزاحة السردية ليتجلى فيها الجانب الاجتماعي والأدبي لشرح الواقع بتمظهرات حالاته لا بلغة شخوصه.

والتقنيات التي استخدمتها في المذكرات/المراسلات/المناجاة الداخلية تخلصت من التأريخ الزمني ولمحت إلى أحداثه في المستوى الإخباري والتصويري صعودا ونزولا بين مفارقات المفردات وتناقضات التفاصيل المادية، قراءة وسماعاً وتصويرا للمُتلقي لتصل بالمَشاهد المتتابعة إلى مناطق الدهشة، ما تناسبَ مع الإحالات للأحداث التاريخية وتوثيقها والحالات النفسية لشخوصها، وكأنها تسجيل سردية ذاتية يمتزج فيها الواقع بالمتخيل، وهذا ما جعل العمل برأيي أصيلاً حقيقيا لن يغيب في الهَباء.

من استهلال جميلة في الرواية تقول: "أولئك الذين يَسكنون جِراحهم، الذين لَبسوا الأسودَ والدّموع، بِبُهت الأوراقِ التي احتفظوا بِها، آملين أن يَستبدلوها ذات عَدلٍ بوَطن، كَبروا بأوراقِهم لا بأعمارهِم، دونَ أن يكونَ لهم قبرٌ في وطن، عن هؤلاء هذه الرّواية." (ص5)

أما في نهايتها فجهاد "يُحرك قدَميه ويَديهِ، يَرقص مَعي، يُصفّق الأطفالُ من حولِه، تَطير الحَماماتُ وتبقى أخريات على الأرض تأكل البذور"(ص148).. وهذا المجاز يحيل إلى "حمام درويش" الذي يحط ويطير، ثم يُلقي البذورَ فيها، صورة شعرية عميقة لم تخِل بالسرد بقدر ما أطلقته حراً للتأويل. وتجنباً لكشف ما حَدَث بين تلك العتبتين –الاستهلال والخاتمة- تُناجي جميلة جهاد الذي ذاب.. جهاد "القَصيّ".


علامة التراب..
"فيا أيها القصيّ..
لطفولةٍ، جرّب ألا تشيخ" (ص 132) 
ربما تستفز هذه الرواية مجسّات الرقابة، وقد يعتبرها "جهاز" الإنذار وثيقة جاهزة للاتهامات بالدليل القاطع؛ جهاد محمد ليس عدوا لأحد، كل ما في الأمر أنه لم يشأ أن يكون متفرجاً عابراً فكتب رؤاه، وُجد بطريقة جاك دريدا كتابةً، وإن تصدر اسمه الرواية "مؤلفاً وكاتباً" فقد "مات" فيها كما قال رولان بارت، والذين غابوا في الرواية/المقبرة ذبلوا، أما الطفل البريء الذي تُرك فيها، فمصيره متروك على أرجوحة، قد يلهو ريثما يكبر أو يتدلى منها "حبل" كما حدث ذات "رحيل"،  فاعدلوا عن الاتهام بحق الإنسان!

تعليقات

المشاركات الشائعة