ولادات طبيعية

 

ولادات طبيعية


الثامنة صباحاً.. كانت تبدو موعداً مناسبا للحضور إلى العيادة والدخول الباكر، لكن هذه الاستبانة تؤخرها، والمرأة الحبلى بطفلين أحدهما انضم للتو إلى العالم كما يبدو من صراخه المفجوع ستسبقها بالمرور رغم حمولتها الزائدة، "إلى أيّ حد كانت متعتها تلك الليلة التي لم تنبهها إلى التهام قرص الطوارئ؟"  تتساءل بينما تنتف الطبقة اليابسة من شفتيها بأظافرها وتقذف بها تجاه ذلك الصراخ.

تستكمل تدوين الإجابات، "ما هدفك من إجراء تحليل الحمض النووي؟"

حاولت السيطرة على ضحكتها وهي ترمق المرأة التي تضع يداً على بطنها ولا تحاول بذل أي جهد لإسكات رضيعها، كتبت: "خوفي من قنبلة جديدة"، فلتت ضحكة.

 "ما تزال القنبلة صغيرة، ربما خمسة أشهر؟ ستسبقك تلك الدول العظمى بواحدة تجعلك كتلة متفحمة مندلقة الأحشاء، كان عليكِ التهام قرص واحد فقط، ألم تملكي واحدا قط؟".

 تُدرك أن جلّ ما تؤمن فيه تلك الحبلى هو أن القادم "نعمة كبرى" وأن "الخير يأتي معه"، ولكنها على يقين من أن  "الحروب تقطع نسل الحياة ولا تترك سوى الموتى".

 تتذكر وجوه الشيوخ التي يحملها الأطفال، صرخات الولادة كأنين الثكالى، تتوارد وجوه أطباء الإنعاش وعلاج مصابي الحروب الذين يستقبلون المواليد إياهم في انفجارات المخاض، يتنفسون الصعداء جميعا في تلقي الكوارث نفسها.

 تستدرك السؤال اللاحق عن الحرب الأخيرة.. أو "آخر حمل مرّت به" كما يبدو السؤال؛ "كيف أكتب عن اللحظات التي لم أكن أعرف شيئاً عن العالم حينها، العالم الآمن قبل أن أولد، العالم المدفون حيث يركل موعد الظهور، دخول الحفلة متطفلةً، وارتداء اسم طفل جديد يلعب بالنار!

أعلم أن ولادتي حادثة الصدفة، بينما تلك المنهمكة على تسجيل حيثيّات حملها تقتبس من كتاب "علم نفس النمو" جماليات التتابع، نظريات الحشود المكتظة لتعلق أسماءها في شجرة العائلة والتفاخر بإنجازاتها في التناسل، ولا تستدرك واقع الاقتلاع من الجذر، حيث لا أثر يبقى للاستدلال على تلك الجثث ولا جدّ يحمل تاريخ ارتحاله، ولا أرض تشبه لونه، ولا صنعة أو لقباً يُكتب على شاهد قبره، يقترفون جريمة الأبوة ولا ذاكرة تحمي الأمهات، المقابر الجماعية ليست أرحاماً".

أجابت: "منذ آخر ظهور.. يوم حظر التجوال".

تنادي الممرضة المشرفة على مواعيد الانتظار، تخبرها: لا أعرف إن كنت أنسى، أو أنني مَنسيةٌ، لا أذكر إلا صورة أخي بعد تلك الحرب، رحل والداي منذ زمن طويل، ولكن الحرب شقت جانبيّ الفص الصدغي الأوسط، بعد أن شرّحت قلبي برحيله، ما أدى إلى نسيان شبه دائم.

تُبهت الممرضة وتشير إليها لكتابة المصطلح الطبي، إن كانت تذكره!

تضيء شاشة هاتفها النقال، تفكّر في تدوين تشخيص حالتها الصحية كما أشار تقرير الطبيب على الورقة؛ "قد يجدي ذلك".

آه.. إنه "النسيان التفارقي"، استرسلت: هو نسيان أحداث مؤلمة حدثت للفرد نفسه، في الماضي، بين سلسلة متواصلة من الأحداث، تنقل بدقة ما كتبه الطبيب الذي تابع حالتها: "تأثرت أجزاء الدماغ المؤثرة في الممرات السائدة على طول المنطقة نظيرة الحصينية الوسطى وقرن أمون والفصوص الصدغية الوسطى السفلى والسطح الحجاجي للفص الامامي والدماغ المتوسط أو سرير المخ".

سرير المخ..

سرير المخ..

لا أذكر ما رأيت، لا أريد أن أذكره، لن أذكره، سأتوقف عند سرير المخ، سريره عندما رحل، سريره الخالي فيما بعد، سرير المشفى، الطبيب،  نعم الطبيب؛ "إصابة جانبي الفص الصدغي الأوسط، قد تؤدي إلى نسيان شبه دائم"، لذلك أنا أنسى، لذا أنا منسية، ولا أحد يعرف أيّ الضحايا أخي!

-ما الغرض الأساس من اختبار فحص DNA؟

تطل على ورقة المرأة التي انتهت من استبانتها، لا تتمكن من القراءة، تسألها:

ما غرضك؟

تستغرب الحبلى تلك المباغتة ولكن تبتسم: "أريد أن أتأكد من خلو الجنين من الأمراض.."

تتوجه ببصرها إلى سلة النفايات، والسائل المتقاطر على الأرض من المحارم التي علقت بطرفها،  تباغتها من جديد: "من منّا يحمل الأمراض والأوبئة إلى الآخر؟".

-   نعم.. لم أفهم ما تقصدين؟! – قالتها وهي تهدهد رضيعها أخيراً، ثم انشغلت بإخراج قنينة الحليب الكبيرة، الباردة كما يبدو من تكتل المسحوق وخفة الماء، رجّتها ثم دسّتها في فمه.

-   العالم ملوّث وكارثيّ، الحروب تسلب الأطفال حياتهم بالضنك قبل أن تُجهز على أرواحهم، ألا تخافين؟

-        الأطفال يجعلون العالم جنة، وإن قدّر الله أن يكونوا عصافير جنته..

-   ولادة طفل تحمل الجحيم معه، نؤثث خيالنا عن العالم الآخر ونحن نعايش الماضي الذي نتوهمه  والمستقبل  المنشود – التقطت كلمة المستقبل من شعار معلق في العيادة فوق سلة المهملات يحمل صورة طفل سعيد-.

-        أنتِ غريبة الأطوار ومزعجة! "تحتضن صغيرها وتقوم لتسليم الورقة"

-   هل يمكننا فعلا إعادة تدوير النفايات، وقيادة سيارة صديقة للبيئة،  والعيش بمنزل يعمل بنظام طاقة مكتفٍ ذاتيًا- تضحك-؟

-        ما مشكلتك؟

-    تلك الاحتياطات ستؤدي إلى وقاية الغلاف الجوي من انبعاثات 486 طنًا من ثاني أكسيد الكربون، والحروب تبعث أضعافه، بينما لو أخذت قرارًا بالامتناع عن إنجاب طفل واحد فقط فستكونين وفرتِ ما يعادل عشرين من ضعف الرقم الأول تقريبًا، ولقل عدد الضحايا، ولربما توقفت الحرب.

كانت تتكلم وحيدة عن الأرقام، استدركت: علينا التوقف عن إنجاب قصتنا!

 

سلّمت الأم ورقتها وغادرت بسكون أطبق على المكان، بينما كانت الورقة بين يديها مهترئة بالشطب والإجابات الطويلة، لم تسجل بيانات شخصية للتواصل معها، كتبت: أخت المفقود في الحرب المسجل برقم 2379، ربما كان اسمي وسن، ربما كان اسمه وسام، ربما تجدون لي مكاناً لأعيش قريبا منه وأموت.

دخلت إلى غرفة إجراء التحليل، "المختبر المعقم بشكل جيد، كل شيء بلا رائحة"، وهي تحمل إليه رائحة البارود والشمس الحارقة والعفن، لم يكشطها البحر بعد، أخذوا مسحة من داخل الخد.

 "ستكون النتائج مالحة".

خرجت من العيادة، تلمح اكتظاظ الناس في الميدان، توجهت إليهم، هتفت باسم المفقودين، رفعت راية البحر.

أفراح فهد

تعليقات

المشاركات الشائعة