انظر.. كيف أزهرت شجرة اللوز في قلبي وكأن الأمر كان بالأمس؟

 قراءة انطباعية للفيلم الجورجي "عائلتي السعيدة"




لن يكلفك هذا الفيلم عناء التمترس وراء الكتب التي تحدثك عن الحاجة إلى العزلة أو "غرفة تخص المرء وحده" لتحليل قضيته، يبدأ الفيلم وسط عائلة تسكن شقة صغيرة، تكتشف سريعاً روابط الأسرة الممتدة التي تجمع ثلاثة أجيال في مكان واحد، وعلاقات أخرى لا تتردد في التدخل متى رنّ جرس الإنذار في ارتباك بسيط لنظام تلك العلاقات، ومنها اختيار المرء مكاناً هادئاً منفصلا عنها.

مانانا.. معلمة في بداية الخمسينات من عمرها، هادئة جدا،  لا تعبر عن اكتئابها أو حزنها العميق بأي تفاصيل، هي امرأة "متعبة" فحسب، قليلا ما تتحدث ولا تعبر عن ضجرها من حجم الثرثرات الذي يحيط بها إلا بقرار التسلل خارج هذه المنظومة حين تختار السكن لوحدها، وتقرر ذلك بعد حوار مع إحدى طالباتها التي تغيبت عن الفصل لشهر، وعللت ذلك بسبب انفصالها عن زوجها أخيراً، مختتمة حديثها: "حين تقرر إحدانا الرحيل مرة.. فعليها أن تفعل ذلك"، بدت عبارتها لحظة الإشراق التي دفعت مانانا إلى ترتيب حقائبها بعد حفل عيد ميلادها الذي تكفل الجميع بدعوة ضيوفه ما عداها! وهي انطلاقة رمزية لمعنى الميلاد.

اختارت شقة تحف الأشجار نوافذها، وأصبح ذلك المكان ممتلئاً بالمعزوفات الموسيقية من الأسطوانة التي تشغلها بصحبة كعكة الفراولة التي تناولتها أخيرا من دون توبيخ والدتها، ومن الغيتار التي أصلحت أوتاره لتمارس هوايتها من جديد بعد انقطاع طويل، وهكذا بدت الحياة الجديدة: قطعة حلوى وموسيقى ونوافذ مفتوحة على الحدائق.

ورغم محاولات العائلة كاملة لمنع مانانا وتقييد قرار انتقالها وترك زوجها الذي يسكن معهم؛ تنسحب ثرثرات الأسرة وشكاواها المستمرة وحوارات اللوم والتوبيخ والسجالات عديمة الجدوى ليحل حفيف الأشجار وتراقص الستائر وانتشار الموسيقى مكانها، ولتتخفف المشاهد من زحام الأجساد والأواني وقطع الأثاث فتبدو المساحة الخاصة بمنانا مشرقة ملونة مكسوة بالنباتات ولو لم تكمل تعليق الأرفف وترتيب حاجياتها فيه.

تحاول مانانا الحفاظ على علاقتها بأمها وهي ضحية أخرى لثقافة أجبرتها على القيام بدور الزوجة والأم والجدة، لتمثل "الماضي"، وبابنتها نينو التي تمثل المستقبل، ويبدو والدها الذي يتحدث عن العمر المتبقي له قبل أن يموت وهو يستعيد ذكريات نضاله، وأبناؤها الذين يخوضون مكابدات الحياة وينتصرون لاختياراتهم الناجحة والخاسرة بلا حاجة حقيقية لوجودها المستمر، وصداقاتها التي استعادت فيها الاستمتاع باللحظة وانطلاق صوتها بالغناء رغم محمول خيبات الثرثرة التي تختتمها.

 كل زيارة لمنانا كانت تكلفها الكثير مما لم تنتبه إليه مسبقاً، أسرار تتكشف وخيانات ووشايات لا تنتهي، وهي تتقاطع مع حياتنا بشكل واضح، فالبيئة الجورجية التي صورها الفيلم لا تختلف عن بيئنا المحافظة على أعمدة تحاول التماسك رغم تهالكها، وهي ما يرتب الأسئلة متوازنا مع إيقاعه الهادئ؛ لا "كيف نحافظ عليها.." بل "أين مساحتنا الخاصة؟" و "إلى متى؟".

لن يحبس الفيلم أنفاسك في مشاهد مثيرة وأحداث شائكة.. لكنه سيمنحك جرعة كبيرة من تأمل الحياة الاجتماعية في جورجيا وطبيعتها وأغانيها الشعبية العميقة وموسيقاها البديعة.

ترنمت مانانا عندما أمسكت بغيتارها أول مرة بصوت عذب:

"شجرة اللوز كانت تزهر

الشمس ألقت بوهجها الأحمر

في قلب أزهار شجرة اللوز

ثم جئت أنت وداعبتني

ولكنني لم أصدق يا حبيبي

انظر كيف أزهرت شجرة اللوز في قلبي وكأن الأمر كان بالأمس؟"



أغنية من الفيلم 

كتبت قصة الفيلم الجورجي "عائلتي السعيدة" My Happy Family (Georgian ჩემი ბედნიერი ოჯახი) نانا إكفتيميشفيلي، وأخرجته بمشاركة سيمون جروس عام 2017، وهو من بطولة لاشوغلياشفيلي التي أدت دور مانانا،  ميراب نينيدزه بدور زوجها سوسو،  بيرتا خابافا بدور لامارا،  تسيسيا قمسيشفيلي بدور نينو،  ديمتري أوراجفيليدزي بدور أخيها ريزو وآخرين، واقترن الفيلم بعبارة نشرت مترافقة مع قراءاته، "كيف تبدو الحياة عندما يدق الجرس ويعود المعلمون إلى منازلهم؟"


تعليقات

المشاركات الشائعة