روبابيكيا - قصة قصيرة

 

روبابيكيا

أفراح الهندال

 

 يمشي كمن يعدًّ أيامه التي انفرطت هنا، أوراق الشجر الجافة متوالية إلى البوابة، يدوسها على مهل، عادة لم يتخلص منها... أو هي لعبته الأثيرة.

لا يبعث فيه اليُبس إلا رغبة سَحقه، تأكد من قفل الباب، ومن الصدأ الذي أحكم عليه، من كان يناديه؟ صرير الريح والأحمر المُفتَّت والأوراق المتطايرة في الساحة، تمتم: خرج عمال الصيانة، سيجيئون مجددًا بآلاتهم، غدًا أو بعد غد.

يعود متفقدًا مدينة الملاهي، تركوا فيها أوامر الإزالة والتجديد، ملفات عمل متروكة ومعدات جديدة، ولغة لا تفهم سوى الأوامر، وكتاب الإنذار الذي حدد موعد رحيله.

- ما الذي سيحلُّ بمدينتنا؟

يتأمل الشجرة المتهاوية ويتمتم: تماسكي قبل أن يفترسك القلق.

- والألعاب؟

- سأخبرها أنا، ربما تزهو بالخبر الجديد، وتستعد للافتتاح معهم!

يمر بين الألعاب الكبيرة، يفكُّ شريطة معقودة حول الأراجيح الدوارة، قفز آخر طفلين ركباها إلى ذاكرته، أحدهما  كان قادرًا على إيقاف كل الألعاب بصراخه، أما الثاني فكان مرعوبًا إلى درجة التحنط، وحين نزل من الأرجوحة كان يشكو ألمًا في فمه ويمسك ضرسه المُدمى بيده المرتجفة.

يومها، دخل غرفته ليغسل يديه، كان يلمح الدم في المياه، لم تغسل الدماء المحقونة في الذاكرة.

كراسي الأراجيح الدوارة لا تسعه، تدير طاحونة المشاهد التي ظلت عالقة بذهنه، تقلب أوراق يومياته وملابسه. ارتدى زيَّ حارس الألعاب بألوانه المبهجة لفترة طويلة، ربما عشرة أعوام، ويقينًا كانت سيرة الوجه المتغضِّن، وخرائط الملح التي وشمتها الشمس على خديه.

حين قرروا إيقاف اللعب في المدينة منذ سنتين، ارتدى لباسه الشعبي الواسع، صار بوَّاب المدينة، القادم من بساتين القرية البعيدة، يتكئ على أعمدة المصابيح القصيرة وبوابات الألعاب ويجالس ما تبقَّى من أغصان يابسة امتدت في طرقاتها الضيقة.

أما الليالي الموحشة، فكانت قادرة على تحريك مقابض معلقة في جوانبها، يعرف جيدًا صوت التآكل وتفكك الصواميل وتساقط الأعمدة بعضها فوق بعض، الصخب الذي يضجُّ كل ليلة كان يواري صراخًا محتشدًا تحت ركام سكة حديدية في بلده، هرب منها إلى البلد الجديد، الحارِّ كسخونة تلك السكك، المتخمة بالدخان كقطاراتها، المكتظة بالبشر الهاربين مثله من حكايات غرق المراكب البحرية والفيضانات والثارات ومساكن المقابر والخرائب وأرصفة المشردين، كل وجه يراه بين الوافدين من دياره له قصة شبيهة، وكان يتلمس بقايا وجهه بينهم.

لا يعرف كيف استعاد حمولة القطع التي كان يبيعها بعد أن ترك عمله الأول؛ ملابس مستعملة وأدوات مطبخٍ طال جوع أهلها، وقطع أثاث صغيرة يلهج باسمها ويهتف: بيكيا... روبابيكيا... انهالت جميعًا على ظهره.

أدعية أمه التي ما زالت تنتظر عودته مع كل عجينة «فطير» تدخلها إلى الفرن الطيني، «يارب، رجَّعه سالم... وناسي»! شتائم الناس وزجرهم، وكراهية العالم الذي نبذه حتى وصل إلى مدينة ملاهٍ تمد ألسنتها من كل لعبة ولا تتوقف عن الضحك، هيستيريا الألعاب التي تجرُّ عرباتها وتذكره بصوت آلات فرم اللحم، يستعيدها بحجم قطار!

توجَّه إلى لعبة أخرى، أزال الشريطة، شغلها ليرى إن كانت ما تزال قادرة على الطيران، تنفث كل طائرة الوقت المتجمد في الهَجْر وتحلِّق، كان كل طفل يعانق السماء ويقسم إنه «طار» حين يعود إلى والديه، يتابع بنظره آخر طائرة حلَّقت قبل أن تتباطأ حركتها تدريجيًّا للهبوط، احتضن جسده كعصفور سقط من العش حالًا، مرتعشًا، لا يجد فتات «فطير» إلى جانبه.

«طار»... تمالك نفسه حين ركب الطائرة أول مرة، شغل الكابتن دعاء الركوب ولكنه عجز عن ترديده، تسارعت نبضات قلبه، اِزرقَّ وجهه، اختنق، كان يتوقع تعطل الطائرة في تسارع عجلاتها، تخيل أشلاءه المبعثرة، لم يعرف كيف سيلملمها تحت ثقل جناح الطائرة، تقيَّأ، عينا الطفل اللتان كانتا  ترصدانه عرفها في كل العيون التي ركبت الألعاب منذ استلم عمله الجديد، كانت تسخر من خوفه، وكلما سمع صوت محركات تجرُّ العربات...  تقيَّأ.

نفض المشهد العالق، مضى بين الألعاب يفتح شرائط الحظر واحدة تلو الأخرى، انطلقت أهزوجة «افتح يا سمسم أبوابك نحن الأطفال»، يلمح تدافع الأطفال من فصول المدارس قادمين إلى المدينة، يراهم حين يغلق عينيه ويسمعهم حين يفتحهما،  شغَّل الألعاب التي مر بها، ستنير المصابيح موعد حضورهم، رغم هدوء المدينة والباب المتآكل ورغم وقت الغروب، سيصلون متعبين، لكنهم سيحلقون، وربما يلمح صغاره قادمين ويسعفه الاحتفال لتعويض سنوات غيابه ليعود بهم إلى القرية، معه حزمة الأموال التي جمعها، لأثواب العيد وجلباب جديد وفرن غاز و«عربية»، وأموال قد تُنسي الجيران تلك الليلة السوداء قبل سنوات من اغترابه.

لكن الموتى لن يشفعوا له، ولن ينسوا، سيمشي بمواكبهم التي هرب منها في رحلة عودته، مدخل القرية والسكة الحديدية والأرصفة المنهارة والمقبرة، والأطفال الذين يركضون مسايرين للـ «قطر» حتى يبهتون بوقوفه، المشهد الناقص لا ينزل بينهم حقائب الإياب.

يقطع تصورات عودته باستكمال الجولة، يتوجه إلى لعبة القطار، مَلِك المدينة، هتف به: سيجيء الأطفال قريبًا، فاستعد للرحلة ...

خلع رداءه ليمسح مقدمته، كشط الغبار بأظافره، ظل يمسح مستغرقًا ويحاول تلميعه «اِصحَ، قم من غفوتك».

يحدق إليه: كيف يستأمنون أطفالهم في «قطار الموت»؟

ردد اسمه بنبرة حزَّتها سكين الذكرى، مالت شفتاه إلى الأسفل، قاوم رغبة البكاء، تذكر حطام القطارين المتصادمين آخر يوم له في وظيفته، الضحايا الذين حاول إنقاذهم، كان يجمع أعضاءهم المتناثرة ويكومها حول كل جسد، والنداءات التي تستجديه على السكة، خفتت في الظلام، لوَّنت الفجر بدمائهم، أما وسام البطولة فتركه مع البيكيا، متوسطًا دُمى المولد، معقودًا بعفونة الليلة، احتفلت به «الحكومة»، لكن قذفه أهالي الضحايا بشتائم «عملته»، متشفية بكتاب إنهاء الخدمة التكريمي، حينها قرر الرحيل.

زاحفًا بخدره... توجه إلى المقصورة الصغيرة ليشغِّل القطار، أضاءت المصابيح المعلقة عليه تباعًا، حدد الدقائق التي سينطلق بعدها، ثم توجه إلى الكرسي الأول ليختبر عنفوانه، أغاني الأطفال تضج في المدينة كلها، القطار يجر أذيال هذيانه، سيبحثون عن حارس المدينة الذي ترك البوابة مُشرعةً، يحملون كتاب الإنذار ليُجهزوا عليه بالطرد، سيعثرون على صِبية تسللوا إلى الألعاب خلسةً، وشاهدوا قائد القطار الذي أقسم إنه لن يترك كابينة القيادة لتوديع قريته مجددًا، سيسجلون اسمه ضحية وحيدة وتقام احتفالية ثأر في القرية.


* منشورة ضمن المجموعة القصصية "مرصد المتاهة" الصادرة عن دار منشورات تكوين 2020


تعليقات

المشاركات الشائعة