النجفي التقدمي..الماركسي المؤمن في «تنوير»
عبدالحسين شعبان: اعتادت «النجف» أن تقيم صداقة مع التمرد..
أفراح الهندال
لا تقرأ المدينة من خلال شوارعها الخلفية ومبانيها الصامدة أومعلقاتها الخضراء وطين الأرصفة فقط.. ثمة بشر يتقنون تدوين «المدينة» كما يجب.. ويغنونك عن السفر أو البحث في كتب السير والذكريات بأحاديثهم الشائقة.. كذلك كان د.عبدالحسين شعبان، المفكر العراقي والباحث في القضايا الاستراتيجية العربية والدولية، الذي استضافه مركز «تنوير» للثقافة مساء أمس الأول في الجمعية الثقافية النسائية في أمسية أدارها د.حامد الحمود، ليحدث الحضور عن «النجف..الوجه الآخر»..
النجفي التقدمي.. الذي يجمع تناقضات المدينة بداخله؛ حدث الحضور عن هذه التركيبة الدقيقة في تفاصيلها، «الفسيفسائية» كما شدد في تشبيهه، المدينة الممتدة في احتمالاتها..! فهذه المدينة التي تقع في طرف الصحراء، بالقرب من نهر الفرات المارّ بالكوفة، وتسمّى في أحيان كثيرة بالنجف الأشرف، تأكيداً على قدسيتها وعلى تقدير الناس لها، «مدينة شفاهية كما هي تدوينية»، مفسرا: « الشعر متنفس المجتمع المتحفظ» (المحافظ) في النجف، ولعل ذلك هو الذي يفسّر لنا كثرة الشعراء في مدينة صغيرة كالنجف، فكونها تضم مائتي شاعر في فترة قصيرة ظاهرة ملفتة للنظر، سواء في ذلك شعراء الفصحى أو العامية، والفلاح والبقال وبائع الخضار والحلاق والعامل في المقهى جميعهم يرددون الشعر كما يردده المتعلمون والشيوخ والمثقفون»..
مدينة التناقضات
وتمثل د.شعبان بالجواهري كنموذج للشخصية النجفية التي تحمل التناقضات في داخلها، مستشهدا بأبيات شعرية له تحمل تلك التركيبات المتدافعة:
«عجيب أمرك الرجراج لا جنفا ولا صددا
تضيق بعيشه رغد وتهوى العيشة الرغدا
وترفض منه رفها وتعشق كل من زهدا
ولا تقوى مصامدة وتعبد كل من صمدا»
مبينا أن من أراد أن يعرف حياة المجتمع النجفي وتطوره يمكنه أن يدرس «تاريخ المقهى» من خلال شخصياته وزبائنه، وهو جزء من حياة المجتمع العراقي مع خصوصيته، فالنجف المدينة العربية، وهي على طرف الصحراء، كانت تحمل تناقضها المنسجم معها ومع طبيعتها، فهي مدينة عشائرية بامتياز وهي مدينة دينية باعتزاز، وهي مدينة مدنية وثقافية وفكرية بشرف، وهي مدينة محافظة وهي مدينة تقدمية.
النجف مدينة تستقبل الوافدين وتصهرهم في إطار مجتمعها ذات الصفات القوية والمؤثرة، بحيث لا يمكن التفكير مع وجود الاختلاف، إلاّ في أطر الاختلاف المتوفرة وليس الانشقاق عليها، وتلك صفات المدن الواثقة من نفسها، الحرّة، المعتدّة بما لديها، المنسجمة، والمتفاعلة مع الآخر المؤتلفة والمختلفة، لكنها في نهاية المطاف لها مذاقها وسحرها ولونها ورائحتها، الخاصة، والمدن مثل النساء لكل منها طعمه، بحيث تستطيع أن تميّز من بعيد بين النجفي أو النجفية وبين آخرين أو أخريات، من خلال الحضور والشخصية وطريقة عرض الأشياء والمنطق والخلفيات التاريخية الحضارية، دون أن يعني ذلك تقليلاً من شأن الآخرين.
شخصية منفتحة
ويكمل: «إلاّ أنها شخصية منفتحة في داخلها لا ترفض الغريب لكونه غريباً، بل تسعى لإقامة العلاقات مع الجديد الوافد إليها، طالما كان يرتبط معها بالعقيدة ويسعى لاحترامها. في إطار مصالح مشتركة، فإذا تعارضت وجهته بالضد منها وحاول استغلال علاقته دون مراعاة المصالح المتبادلة، يبدأ الصراع وتغيب الحدود في هذا الصراع، إذ إنه في الصراع هناك الصديق أو العدو، الأبيض أو الأسود، ولا رمادية بينهما، وهو ما يجعل جوانب حادة وصارمة أحياناً في تركيبة الشخصية النجفية»، ملمحا إلى الحضور الروسي في النجف، وإقامة شخص يهودي وحيد فيها!
ولعل زيارة المفكر اللبناني المسيحي المغترب أمين الريحاني إلى النجف واحتفاءها به في العام 1922 دليل مهم على انفتاح المجتمع النجفي وتطلّع نُخَبِه إلى التواصل مع الآخر، ووصفه المثير للنجف بأنها «أعظم مدينة في العالم» ليس بجمال بيوتها وزخارفها، ولكن برجالها..
أسماء النجف
واستعرض د.شعبان أسماء مدينة النجف؛ «فمن أسمائها الأكثر شهرة هي «الغري» و»وادي السلام» و»المشهد» و»النجف السعيد» وتكنّى بـ»خدّ العذراء»، وقد ارتبطت هذه الأسماء كلها بكون النجف ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضر وبدو، وقبائل ووافدين. و»النجف كمدينة، هي الحد الفاصل أساساً بين الصحراء أو البادية الشاسعة الممتدة الى المملكة العربية السعودية، وبين الداخل العراقي بما يضمه من حضارات تمتد الى نحو سبعة آلاف عام في التاريخ، وقد ظلت ميداناً لتصارع قيم البداوة والحضارة».
مدارس النجف
ثم تحدث عن طابع الفكر الاجتهادي في مدارس النجف الدينية، وبسبب التفاعل بين مختلف القبائل والعشائر والأفكار الفقهية واللغوية والعلمية، فقد ظلّت مفتوحة وتستطيع استيعاب واستقطاب الجديد والوافد وصهره في إطار بوتقتها العربية، خصوصاً وأنها كانت لغة الدراسة التي لا يمكن التقدم دون الإلمام بها وإتقانها، الأمر الذي أوجد فيها وضعاً متميّزاً ومناخاً واسعاً وأفقاً رحباً كرسته بالاجتهاد وبدور العلماء في النجف، الذين أضافوا ميزة التجديد لا التمسك بالمدارس التقليدية.
للعمامة شأن في النجف
وتحدث د.شعبان عن شأن العمامة التي تجد لها اهتماما خاصا، فهناك السوداء التي تميز من حاز العلم إلى جانب نسب سلالته إلى آل بيت الرسول، أو «البيضاء» لتميز دارس العلم الديني من «العامة»..! وذلك لا يمنع العامة من مساءلتهم والاعتراض عليهم ومحاججتهم، وذكر اعتراض البعض على استثناء دارس الدين من التجنيد، ووصف الشيخ علي الشرقي للمعممين بـ «رؤوس البصل»!
مدينة التمرد
وبحديث لم يخل من الطرافة والتأمل والتفكر، أشار إلى أن «النجف مدينة اعتادت أن تقيم صداقة مع التمرد، مستعرضا حوادث الثورات، وتفرد الشخصية النجفية بالتحرر الفكري الذي جمع الشيوعيين واليساريين بالعدد الذي يتواجد به المؤمنون والشيوخ المحافظون، وذكر الاعتراض على القوى الرجعية التي ترفض تعليم البنات ومنها كتب الجواهري يومها قصيدة شهيرة باسم «الرجعيون» يقول فيها:
ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ
إذا لم تقصرْ عمرَها الصدماتُ
غداً يمنعُ الفتيان أن يتعلموا
كما اليوم ظلماً تمنع الفتياتُ
تحكّم باسمِ الدين كل مذمَّمٍ
ومرتكبٍ حفَّتْ به الشبهاتُ
وما الدين إلا آلةٌ يشهرونها
إلى غرض يقضونهُ وأداةُ
مداخلات طويلة
هذا «بعض» مما جرى في الأمسية الاستذكارية.. أو بوح الذكريات الطويل، حيث قابل الحضور شخصية أتقنت الاسترسال في الطرح دون إشاعة الملل، بحديث الشعر والحوادث والتاريخ والتفكر والتندر.
http://www.alkuwaitiah.com/ArticleDetail.aspx?id=10094
عبدالحسين شعبان: اعتادت «النجف» أن تقيم صداقة مع التمرد..
أفراح الهندال
لا تقرأ المدينة من خلال شوارعها الخلفية ومبانيها الصامدة أومعلقاتها الخضراء وطين الأرصفة فقط.. ثمة بشر يتقنون تدوين «المدينة» كما يجب.. ويغنونك عن السفر أو البحث في كتب السير والذكريات بأحاديثهم الشائقة.. كذلك كان د.عبدالحسين شعبان، المفكر العراقي والباحث في القضايا الاستراتيجية العربية والدولية، الذي استضافه مركز «تنوير» للثقافة مساء أمس الأول في الجمعية الثقافية النسائية في أمسية أدارها د.حامد الحمود، ليحدث الحضور عن «النجف..الوجه الآخر»..
النجفي التقدمي.. الذي يجمع تناقضات المدينة بداخله؛ حدث الحضور عن هذه التركيبة الدقيقة في تفاصيلها، «الفسيفسائية» كما شدد في تشبيهه، المدينة الممتدة في احتمالاتها..! فهذه المدينة التي تقع في طرف الصحراء، بالقرب من نهر الفرات المارّ بالكوفة، وتسمّى في أحيان كثيرة بالنجف الأشرف، تأكيداً على قدسيتها وعلى تقدير الناس لها، «مدينة شفاهية كما هي تدوينية»، مفسرا: « الشعر متنفس المجتمع المتحفظ» (المحافظ) في النجف، ولعل ذلك هو الذي يفسّر لنا كثرة الشعراء في مدينة صغيرة كالنجف، فكونها تضم مائتي شاعر في فترة قصيرة ظاهرة ملفتة للنظر، سواء في ذلك شعراء الفصحى أو العامية، والفلاح والبقال وبائع الخضار والحلاق والعامل في المقهى جميعهم يرددون الشعر كما يردده المتعلمون والشيوخ والمثقفون»..
مدينة التناقضات
وتمثل د.شعبان بالجواهري كنموذج للشخصية النجفية التي تحمل التناقضات في داخلها، مستشهدا بأبيات شعرية له تحمل تلك التركيبات المتدافعة:
«عجيب أمرك الرجراج لا جنفا ولا صددا
تضيق بعيشه رغد وتهوى العيشة الرغدا
وترفض منه رفها وتعشق كل من زهدا
ولا تقوى مصامدة وتعبد كل من صمدا»
مبينا أن من أراد أن يعرف حياة المجتمع النجفي وتطوره يمكنه أن يدرس «تاريخ المقهى» من خلال شخصياته وزبائنه، وهو جزء من حياة المجتمع العراقي مع خصوصيته، فالنجف المدينة العربية، وهي على طرف الصحراء، كانت تحمل تناقضها المنسجم معها ومع طبيعتها، فهي مدينة عشائرية بامتياز وهي مدينة دينية باعتزاز، وهي مدينة مدنية وثقافية وفكرية بشرف، وهي مدينة محافظة وهي مدينة تقدمية.
النجف مدينة تستقبل الوافدين وتصهرهم في إطار مجتمعها ذات الصفات القوية والمؤثرة، بحيث لا يمكن التفكير مع وجود الاختلاف، إلاّ في أطر الاختلاف المتوفرة وليس الانشقاق عليها، وتلك صفات المدن الواثقة من نفسها، الحرّة، المعتدّة بما لديها، المنسجمة، والمتفاعلة مع الآخر المؤتلفة والمختلفة، لكنها في نهاية المطاف لها مذاقها وسحرها ولونها ورائحتها، الخاصة، والمدن مثل النساء لكل منها طعمه، بحيث تستطيع أن تميّز من بعيد بين النجفي أو النجفية وبين آخرين أو أخريات، من خلال الحضور والشخصية وطريقة عرض الأشياء والمنطق والخلفيات التاريخية الحضارية، دون أن يعني ذلك تقليلاً من شأن الآخرين.
شخصية منفتحة
ويكمل: «إلاّ أنها شخصية منفتحة في داخلها لا ترفض الغريب لكونه غريباً، بل تسعى لإقامة العلاقات مع الجديد الوافد إليها، طالما كان يرتبط معها بالعقيدة ويسعى لاحترامها. في إطار مصالح مشتركة، فإذا تعارضت وجهته بالضد منها وحاول استغلال علاقته دون مراعاة المصالح المتبادلة، يبدأ الصراع وتغيب الحدود في هذا الصراع، إذ إنه في الصراع هناك الصديق أو العدو، الأبيض أو الأسود، ولا رمادية بينهما، وهو ما يجعل جوانب حادة وصارمة أحياناً في تركيبة الشخصية النجفية»، ملمحا إلى الحضور الروسي في النجف، وإقامة شخص يهودي وحيد فيها!
ولعل زيارة المفكر اللبناني المسيحي المغترب أمين الريحاني إلى النجف واحتفاءها به في العام 1922 دليل مهم على انفتاح المجتمع النجفي وتطلّع نُخَبِه إلى التواصل مع الآخر، ووصفه المثير للنجف بأنها «أعظم مدينة في العالم» ليس بجمال بيوتها وزخارفها، ولكن برجالها..
أسماء النجف
واستعرض د.شعبان أسماء مدينة النجف؛ «فمن أسمائها الأكثر شهرة هي «الغري» و»وادي السلام» و»المشهد» و»النجف السعيد» وتكنّى بـ»خدّ العذراء»، وقد ارتبطت هذه الأسماء كلها بكون النجف ملتقى الأطراف المحيطة بها من حضر وبدو، وقبائل ووافدين. و»النجف كمدينة، هي الحد الفاصل أساساً بين الصحراء أو البادية الشاسعة الممتدة الى المملكة العربية السعودية، وبين الداخل العراقي بما يضمه من حضارات تمتد الى نحو سبعة آلاف عام في التاريخ، وقد ظلت ميداناً لتصارع قيم البداوة والحضارة».
مدارس النجف
ثم تحدث عن طابع الفكر الاجتهادي في مدارس النجف الدينية، وبسبب التفاعل بين مختلف القبائل والعشائر والأفكار الفقهية واللغوية والعلمية، فقد ظلّت مفتوحة وتستطيع استيعاب واستقطاب الجديد والوافد وصهره في إطار بوتقتها العربية، خصوصاً وأنها كانت لغة الدراسة التي لا يمكن التقدم دون الإلمام بها وإتقانها، الأمر الذي أوجد فيها وضعاً متميّزاً ومناخاً واسعاً وأفقاً رحباً كرسته بالاجتهاد وبدور العلماء في النجف، الذين أضافوا ميزة التجديد لا التمسك بالمدارس التقليدية.
للعمامة شأن في النجف
وتحدث د.شعبان عن شأن العمامة التي تجد لها اهتماما خاصا، فهناك السوداء التي تميز من حاز العلم إلى جانب نسب سلالته إلى آل بيت الرسول، أو «البيضاء» لتميز دارس العلم الديني من «العامة»..! وذلك لا يمنع العامة من مساءلتهم والاعتراض عليهم ومحاججتهم، وذكر اعتراض البعض على استثناء دارس الدين من التجنيد، ووصف الشيخ علي الشرقي للمعممين بـ «رؤوس البصل»!
مدينة التمرد
وبحديث لم يخل من الطرافة والتأمل والتفكر، أشار إلى أن «النجف مدينة اعتادت أن تقيم صداقة مع التمرد، مستعرضا حوادث الثورات، وتفرد الشخصية النجفية بالتحرر الفكري الذي جمع الشيوعيين واليساريين بالعدد الذي يتواجد به المؤمنون والشيوخ المحافظون، وذكر الاعتراض على القوى الرجعية التي ترفض تعليم البنات ومنها كتب الجواهري يومها قصيدة شهيرة باسم «الرجعيون» يقول فيها:
ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ
إذا لم تقصرْ عمرَها الصدماتُ
غداً يمنعُ الفتيان أن يتعلموا
كما اليوم ظلماً تمنع الفتياتُ
تحكّم باسمِ الدين كل مذمَّمٍ
ومرتكبٍ حفَّتْ به الشبهاتُ
وما الدين إلا آلةٌ يشهرونها
إلى غرض يقضونهُ وأداةُ
مداخلات طويلة
هذا «بعض» مما جرى في الأمسية الاستذكارية.. أو بوح الذكريات الطويل، حيث قابل الحضور شخصية أتقنت الاسترسال في الطرح دون إشاعة الملل، بحديث الشعر والحوادث والتاريخ والتفكر والتندر.
http://www.alkuwaitiah.com/ArticleDetail.aspx?id=10094
تعليقات
إرسال تعليق