السماهيجي: أحاول في شعري الانسجام مع «الوطن»


السماهيجي: أحاول في شعري الانسجام مع «الوطن»



Sunday, 11 يناير 2009 "أوان"

أفراح الهندال


طفولته مأخوذة بجمالية البكاء... إذ كان يصفّف «السّحاحير»، متنصلاً من الركون المنسحب خلف «المنبر المأتميّ»، ليطلق مخلوقاته الشعرية من منبر مغايرٍ يعصمه من جوع خادع ضجيجه الاغتراب، ومجترحاً آثاره؛ خمسة دواوين شعرية حتى الآن، أولها «ما لم يقله أبو طاهر القرمطي» ومن ثم «الغربان» و«امرأة أخرى» و«نزوات شرقية»، وأخيرا «يتركُ لهم أثراً»، متخذاً من الحسين والحلاج وابن عربي والقرمطي نماذج البطل الحامل نصل شعره، وقاطفا المعاني التي تقيه -كما يعبّر- الماضي والحاضر لتأخذه إلى المستقبل الغامض.
لتجربة الناقد والشاعر البحريني حسين السماهيجي ألقها، إذ رصدت محطات رحلته منذ الكتابة الأولى وحتى التدوين الأخير، حاملة معها إرث النقلات على المستويين الفكري والأسلوبي، ومنها التقطنا بعض ما يمكننا الوقوف عنده لإجراء هذا الحوار الذي تم في آخر زيارة له إلى الكويت، تاركين الكثير لحوارات تترصد آثاره المقبلة.


 في مفتتح ديوانك الأخير (يتركُ لهم أثرًا) كتبت «ربَّ هذا البيت أبصرتُ.. فخذني» ما الذي أبصره السماهيجي؟
- هو ما لا تطيق اللغة وصفَه، ولا تدركه.

 فماذا تسمي «آثارها» الشعرية في هذه الحالة؟
- أثرٌ لما تمّ الوقوع عليه، ولعلّه في بعضٍ منه قد أتت الإشارة إليه في الديوان نفسه.

 هذا يدفعنا إلى التساؤل عن العتبات الأولى للشعر؟
- كانت العتبة الأولى إلى الشعر تتمثل في ثلاثة فضاءات متجاورة، أو على وجه الدقة.. متداخلة. الفضاء الأول هو نموذج «الشهيد». حيث إن الارتباط المعنوي الذي كان يأخذني بنموذج شخصية روحية كان لها أعظم الأثر في نفسي، وهو الذي قادني إلى الكتابة الأولى التي من خلالها تعالقت مع الشعر كهاجس دائم وأبدي. الفضاء الثاني هو فضاء «المرأة»، بحضورها الجميل والبهي ومتعدد المستويات، بما يجعلها تتحول إلى رمز شعري دائم. أمّا الفضاء الثالث فهو فضاء «الوطن». هذه الفضاءات الثلاثة بتجاورها حيناً، وتداخلها في معظم الأحيان هي ما شكّل بالنسبة لي العتبة الأولى التي أخذتني إلى بيت الشعر، حيث المكان لا حدود له.

 «أقر بأني أعيش على هامش الورقة.. لأقتات نصي» أين يكمن هذا الهامش، وكيف تقتات منه؟
- الهامش هو ما يعنيه الخروج من «المستقر والثابت»، حيث يتحول إلى أفعال متضادة ومتناقضة ينبغي للمبدع أن يلتفت إليها. هنا.. ألتفت إلى ما استقر خلال العقود الماضية، وتمّ اعتباره أفقًا للخروج، فيما هو يتحول إلى ثيمة أخرى تأخذ المبدع إلى السكون إليها، والاطمئنان إلى طروحاتها المتخابثة في التطور والمغايرة. وهنا بالضبط، يتحوّل النص إلى قوت يومي يعصمك من جوع خادع. «النص» هو ما يقيك من ماضيك، وحاضرك ويأخذك إلى المستقبل الغامض. لذلك يتحول إلى معادل للبقاء الذي يعتاش فيه الكائن على ما ينتجه هو.

تصوّف الشعر
 ما علاقة واقعك بالشعرية حين تتفتق لحظتها في روحك؟
- في أحد مستوياته هو موقد لها. وفي مستوياتها هي، تتجاوزه إلى الحلم تارة، والجنون أخرى.
{ وكيف تشكل قصائدك عالمها من مفردات.. أجواء.. انطلاقة.. ونسيج؟
- لربما يتشكل ذلك من خلال تواصل بين كل ما تفضَّلْتِ بالإشارة إليه. لحظة «الغيبوبة» الشعرية، حيث تلتقي روافد الوجود بأكمله، هي لحظة مستعصية على الشرح والتحليل.

وكأنها  تجلي المتصوفة؟
- لا، ليست كما هي الحالة المتعارف عليها عند الباحثين والمنسوبة إلى المتصوفة، ولا أرى نفسي ضمن هذا النسق. فيما يتعلق بهذه اللحظة، فإنني قد أشرت إلى بعض ما يتصل بها من خلال ما كتبته من قبل عن لحظة كتابة البيت الأول من القصيدة بعنوان «إحالة إلى الفقد»، ونشر بجريدة الحياة الجديدة الفلسطينية بتاريخ 11 يونيو 2004.

 ولكن للتصوف حضوره في فضاءات شعرك.. ما جعلني أقرن الشعر بالتصوف وأتساءل:  رحلة الشاعر أليست تجربة صوفية؟
- أبدًا.. الشعر ليس تصوفًا. الشعر هو الحالة الإنسانية العليا التي لها أن تتصل بكل معطيات الإبداع والتفكّر الإنساني. والتصوف هو أحد تجليات ذلك. يبقى أن التصوف يقدّم لنا حالة شعرية متسامية، بالطبع، بما يعنيه ذلك من خلق كائن إنساني شعري في كل أحواله. أنا أتعاطى مع الحلاج، مثلا، بهذا الاعتبار.. ومثله ابن عربي، وغيرهما. ولا أجد في طرفي السؤال ما يستدعي حالة الاختيار بين طرفين.. (الشعر تصوف، رحلة الشاعر تجربة صوفية).. بهذه الصيغة قد نخلق مفارقة لسنا بحاجة إليها أصلا؛ فكلتا المقولتين -في العمق- تعبير عن شيء جوهري واحد. ولعله هو ما يصل بين الطرفين (الشعر، التصوف) واللذَان هما في خاتمة المطاف أمر واحد.. ولكنْ، على مستوى النظر والتعامل الشخصي فقط.

 فكيف تنظر إلى التراث الصوفي؟ وكيف تعاطيت معه؟
- هو معطى عظيم لحضارتنا العربية الإسلامية، بل والإنسانية عمومًا. فيه نقع على جوهر إنساني يتجاوز ما تنفحنا به الحضارة المادية الفجة التي تحيط بنا اليوم، بل وتَعِدُنا به غدًا. يكفيني في هذا التراث الصوفي أنه يمنحني الحرية لتخليق فضاءاتي الخاصة، ويصلني بأعظم ما أبدعه الإنسان في هذا العالم. ويتيح لي أن أكون فيهم كأحدهم. أمّا عن التعاطي معه، فلذلك وجهه الإبداعي من خلال التجربة الشعرية التي حاوَلَت التواصل مع هذا التراث، بصورة من الصور. كما أن له وجهه الأكاديمي المتمثل في اشتغالي في بحث الدكتوراه على توظيف هذا التراث في التجربة الشعرية العربية المعاصرة من خلال بعض نماذجها المخصوصة. وأنا في كلا الجانبين أستفيد استفادة بالغة تتيح لي وعياً جيداً بالموضوع.

اللحظة الشعرية وناقوس النقد
 بذكر اشتغالك الأكاديمي.. هل ثمة تناقض بين هاجس القصيدة والتفكر النقدي؟ وهل ثمة تلاق بينهما؟
- الأمر له علاقة بطبيعة الشخصية المتعاطية مع المجالين، يكون التناقض لو كان التفكّر النقدي حالة مسيطرة، أمّا لو كان الاشتغال النقدي حالة مساندة، فأعتقد أن التناقض ينتفي.. مع التأكيد، ثانيةً، على أن ذلك نابع من تجربة شخصية في التعامل مع الأمر. ولربما كان الأمر لدى الآخرين مختلفًا تمامًا.

 أي أن الناقد السماهيجي يغيب في لحظة الكتابة الشعرية؟
- هو كذلك؛ ولذلك -إن شئتِ- فالكتابة الشعرية مليئة بالكثير من التناقضات.

 وأين منها حالة «الاغتراب».. باعثة اللحظة الشعرية عند أغلب الشعراء؟
- صحيح.. اللحظة الشعرية لحظة اغتراب عن هذا الكائن المليء بالعنف والدم؛ ولكنها لحظة اتصال بهذا العالم الذي ينضح جمالاً غير محدود، ولربما تشكّل ذلك عبر «النص» الذي يمثل حلم المغامرة والذهاب والتيه الأبدي.

رمز الرفض التاريخي
 كان مفتتح ديوانك الأول «إلى أبي طاهر» لم أبو طاهر تحديدًا؟
- لأنه الذات التي انصهرت فيها عوالم الرفض التاريخي.. ولأنه تعرّض لظلم فادح من قبل كَتَبَة التاريخ الرسمي.. ولأنه الاسم الذي لديه القابلية -حتى اليوم- للتعامل مع الكثير مما يحيط بنا من جنون ونزق على مختلف مستويات السلطة العربية الرسمية.

 تتبدى رحلة مشتركة بينك وبين القرمطي؛ فإلى أين؟
- إلى حيث يتخلّق وطنٌ يحتمل جنوننا ونزقنا. ويتحنن علينا في لحظات انكساراتنا ومواجدنا، وغضبنا وثوراتنا التي لا تنتهي.
 عنوان الديوان (ما لم يقله أبو طاهر القرمطي) والإهداء كان «إلى أبي طاهر»، أما الافتتاحية فجاءت على لسان المتكلم 

«ربَّ هذا البيت».. هذه النقلات ما بين ضمير الغائب وضمير المخاطب وضمير المتكلم.. أهي حالة توحد واستحضار، أم لها رؤية أخرى؟
- هي ذلك، وهي غيره. بما ينفتح على الرمز (التاريخ)، وعلى الرمز (المستقبل).

 إذن ترى المستقبل تدوينًا معدًّا بشكل مسبق، بحيث تستشرف ما فيه بالكلمات بلا تأهبٍ للمباغتة؟
- بل بحساسية شعرية، تهجس بالكشف عمّا ندركه ولا نراه. نشعر به يطوِّق وجودَنا ولا نستطيع من طوقه فكاكا. أولسنا نحيا ذلك منذ قرون متمادية في قمعها ومصادرتها لأحلام الأنبياء والشعراء على حدٍّ سواء.

لا محل لـ «الشعر الديني»
 لك حضور في قصائد الشعر الإسلامي، ولك مفرداتك التي قد يتحفظ عليها المتدينون، ما رؤيتك في ذلك؟
- لم أجد أي تناقض في ذلك. لعل الأمر يتعلق بمستوى من مستويات الفهم والقراءة عند البعض. الشاعر هو هو، والموضوع هو هو.

 وهل تعتبر الشعر في الموضوعات الدينية نشاطاً "رساليّاً"؟
- بل هو شرط من شروط وجود الذات. ويبقى أنّ هذه التسمية والنسبة «الشعر الديني» لا محل لها عندي؛ فالأمر كما قلت: الشاعر هو هو، والموضوع هو هو.

 وكيف ترى أثر الأيديولوجيا في نِتاج الشعراء؟
- لم تغادر الأيديولوجيا الشاعر قط، لا القديم ولا المعاصر. ولعل الشعر على المستوى التاريخي، كان المادة التي استطاعت أن تهضم كل أيديولوجيات العالم، فتُخلِّق منها كائناتٍ شعرية جديدة ومختلفة.

الشاعر محكوم بإنتاج الجميل
 تكون البدايات عند الشعراء عامة بالشكل التقليدي بداية ثم تتحول متخذة من التجارب الجديدة أسلوبًا.. ما بين الديوان الأول لك ذي قصائد الشعر الحر وانتهاء بالديوان الثالث ببناء قصائده العمودي؛ كيف تعبر عن هذه التجارب؟
- هذه ملاحظة للكثيرين الذين استفزّهم خروج النص العمودي بعد النص التفعيلي. وبالنسبة لي، لا أجد أية مفارقة في الأمر. أظن أن الكثيرين من الذين يقعون تحت غواية الشكل يحتاجون إلى أن يعيدوا النظر في مسلّماتهم. لم تعد التجربة الشعرية اليوم منصرفة إلى شكل مخصوص باعتباره المخلِّص للذات من الوقوع في وهم أسر التقليد. لقد تجاوزْنا، أو من المفروض أن نكون قد تجاوزنا، هذا الهاجس الفج والمتخلف. الشاعر محكوم بإنتاج «الجميل»، كما أن الباري عز وجل يخلق المرأة الجميلة، سواء أكانت زنجية أم شقراء أم حنطية أم أيًّا ما كانت.

 وهل تهتم بالبناء المعماري للقصيدة، أم القصيدة بالنسبة لك كائن يولد عفويا؟
- القصيدة تقع في منزلة بين المنزلتين. وأنا أتعاطى من دون حساسية مع كل الأشكال الشعرية. في كلٍّ منها أقع على تجربة ومغامرة. وللمغامرة أن تعيد تخليق المشهد.

النقد الثقافي والغذامي
 طالبت بتخليص النقد الثقافي من الغذامي.. لمَ؟
- هذا سؤال بحجم وجود الغذامي النقدي، وأشكال اتصاله بالنقد الثقافي وإشكاليته في نفس الوقت. على العموم، كان ذلك في أمسية لأسرة الأدباء والكتاب لدينا في البحرين، وضمن سياق رفض الارتهان إلى نظرة الغذامي للشعر العربي، باعتبارها نظرية خلاصية بمحمول أخلاقي مختبئ في طياتها وبواطنها.. وهي -على أية حال- نظرة أخذها البعض، أو كادوا، على أنها مسلّمة ومقولة مطلقة. وهذا الأمر يتنافى مع الطرح العلمي في أبسط مستوياته.

 هناك فرق بين «التخلص» و«توسيع نطاق القراءة والاطلاع النقديين»؟
- لا، ليس الأمر حيث ذهب السؤال. وإنما «تخليص النقد الثقافي من غذاميته» ملتفتٌ إلى ضرورة عدم الارتهان لرؤية الغذامي المرتهنة إلى محمولات خاصة بها، وللغذامي كامل الحق والحرية في أن يجدها أداة للتفكّر والاشتغال النقدي والمقاربة للنص في مطلقه. الأمر الذي ليس بهيِّن هنا، هو أن تتم معاينة «النقد الثقافي» من خلال منجز الغذامي فقط. الأمر ليس كذلك، فالنقد الثقافي يعني اشتغالات نقدية متسعة وممتدة بقدر امتداد المادة التي يتم الاشتغال عليها ومقاربتها. وهنا تمامًا، نحن بحاجة إلى فضاء من الحرية يتجاوز قيد الغذامي للنقد الثقافي. وهذه، بالدرجة الأولى، مسؤولية المشتغلين بالنقد الثقافي، والمنشغلين به. أمّا فيما يخص أبرز آراء الغذامي، فقد كانت لي ورقة تتضمن بعضًا من ذلك. وهذه الورقة قراءةٌ في تجربة أدونيس الشعرية ضمن الإصدار النقدي المشترك (عبدالله الغذامي والممارسة النقدية والثقافية)، ومجموع أوراق هذا الكتاب عبارة عن حلقة نقاشية عقدت لتكريم ناقدنا الرائع الدكتور عبدالله الغذامي.

لا يمكن محاصرة النص
 كيف تتأمل المشهد الثقافي العربي في ظل منع بعض المجلات واعتقال الأدباء والتحفظ على نشر بعض القصائد واتكاء النقد الأدبي على التأويل القاصر؟
- الحرية قيمة مقدسة، ينبغي عدم التفريط بها. وأجد أن ضرب مفهوم حرية التعبير له علاقة بالجانب السياسي، حيث الصراع مع الأنظمة الدكتاتورية السلطوية قد أخذ أبعاداً وجوانب لم تكن في الحسبان من قبل. ولعل آخر هذه القضايا ما حدث مع الشاعر طاهر رياض. الأمر الغريب، هو أن قارئ هذه النصوص، في معظم هذه القراءات، يرتكب أخطاء قرائية وتأويلية فادحة.
 إلى أي مدى يمكن أن تفتح الطريق لعبور قصيدتك في ظل محاصرة النص الإبداعي؟
- بالنسبة لي، على الأقل، لا أشعر بذلك. نعم، كانت لي بعض التجارب مع منع النص بصورة رسمية أو من خلال محاولة التغيير في بعض أجزائه.. ولكنّ فضاء الحريات، ومنه ما أتاحته شبكة «الإنترنت» على سبيل المثال، قد أخذنا إلى حالة أخرى يستحيل معها محاصرة النص مهما كان.

 ما مشروع السماهيجي الذي يشتغل عليه ويمثّل محرّك تجربته الشعرية؟
- منصرفٌ ضمن تجربتي الشعرية الخاصة إلى محاولة الوقوع على انسجام مع «الوطن» كقيمة ومفهوم وسياق لا يقرّ على صيغة مادية بين (الماضي - الحاضر - المستقبل). وأحاول تعميق الوعي الذاتي الخاص بشعرنة الأشياء والكائنات من زاوية عرفانية. وقد صدرت لي أخيرًا مجموعة شعرية، بعنوان (يترك لهم أثرًا)... أتمنى أنني قدّمت فيها ما يستحق القراءة بالفعل.

تعليقات

المشاركات الشائعة