د.نجمة إدريس: اللغة ليست وسيلة توصيل أو ظهرا للامتطاء.. بل غاية
شاعرة صنعت لغتها.. بكسر أفق التوقعات وإطلاقها مجرة كونية
نجمة إدريس: اللغة ليست وسيلة توصيل أو ظهرا للامتطاء.. بل غاية
كيف يمكن لقارئ أن ينجو من مجرة الشعر التي ترتبه فيها جرما بين مسارات الدهشة والتعب المضني لكتابة لا تشبه إلا صاحبتها؛ الشاعرة الكويتية نجمة إدريس لم تنشئ مجرة فحسب؛ بل كونا تتسع مساحاته ولا تتشتت عوالقه، شساعة بقدر سيرة باذخة حري بالقارئ أن يتتبعها!
سمر حديث اليوم.. قنده السيرة الشعرية التي كتبتها الشاعرة في كتابها «تتكسر لغتي.. أنمو» والتي صدرت طبعتها الأولى عام 2004.
في عام 1998 كنت على موعد مع الحياة!.. لا تدري من أين يأتيك جناح النورس، وأنت في جزيرة مهجورة، ليعيدك إلى الماء والبلل والعافية؟! في حين كنت تظن وأنت تدب كل يوم كسلحفاة عتيقة، أن أسفارك قد طويت، وأقلامك قد جفت، وأن الشعر جافاك إلى غير رجعة!!
للشعر أعاجيبه! ولعودته حالاتها!
ويبدو أن الحنين إلى الشعر، كن أيضا حنينا إلى موسيقاه وتردداتها المغرية الغامضة، وأصدائها البدائية حد النقاء. ولكنها موسيقى - ويا للدهشة - بدأت تردي لغة أكثر جنوحا وكثافة، وأقل غنائية! وهي إذن عودة إلى الوزن والتفاعيل، ولكن بلغة مغايرة. إذ ما أوسع المسافة بين نص مثل «العصفور الأسود» أو «أمام الباب الموصد»، حيث اللوحة الوحيدة الممتدة، وحيث الغنائية المسرفة حد الانتحاب، وبين نصوص مثل «ماذا لو؟!» أو «أصدقاء « أو «عقارب» بكثافة رؤاها، وصورها المتناسلة، وأغوارها المضببة. هناك أيضا - في مقام المقارنة بالمرحلتين - تحول من حالة البساطة والمباشرة والانكشاف، إلى لون من المراوغة والإغواء، وإلى التعويل على الإيحاء والإيماء، وإلى التعلق بالأخيلة المتأبية والتعابير المكثفة.
قصيدة الومضة
ولعل هذا الميل إلى «تقطير الشعور» وتكثيفه، تمخض في بعض النماذج الموزونة عن ما يسمى «قصيد الموضة» التي تبرق بلمحة مباراة، مستجمعة لكل النثارات في حزمة واحدة ومستغلبة عن الفضفضة والاندياح باللقطة المباشرة المركزة. وهذه النزعة تمثلها نصوص مثل: «فكرة»، «طير»، «قبل»، في مجموعة «مجرة الماء».
ولقد كان الشاعر قبل أربعة عقود أو ثلاثة، يناضل على جبهتين: البعد الأيديولوجي الذي ينتظم قضايا النص وموضوعاته، والبعد الفني الذي يفكك الشكل العروضي ويعيد بناءه. أما الآن فقد أضيف إلى هذين البعدين بعد ثالث، وهو بعد «اللغة» وتجلياتها، والتعويل على كونها غاية بحد ذاتها، وليست وسيلة توصيل، أو ظهرا للامتطاء. كذلك الوعي بكون اللغة كائنا حيا، ينمو ويتغير، ويمتلك ديناميكية التمرد على القولبة والنمطية.
الاحتفاء بالمفردة!
إن صناعة «لغة جديدة» يستدعي كسر اعتيادية الجملة الشعرية، وكسر أفق توقعاتها، وتحطيم المتداول والمألوف من لغتها وإيقاعها. وهذا لا يتم إلا بالتجرؤ على تفكيك العلاقات اللغوية، وتغيير سياقات الجملة، واستحداث تراكيب غير مألوفة، بل وحتى التجرؤ على بعض القواعد الصرفية والأسلوبية والاشتقاقية. وهذا كله يصدم المتلقي غير المثابر على مواكبة هذه الرؤى الطامحة، وينفره ويخيفه.
ولعله من فضلة القول التأكيد أن شعر المرحلة لم يعد شعرا خطابيا منبريا، ولم يعد يقيم كبير وزن للغة الجمهورية الصاخبة أو المباشرة، بقدر ما يحتفي بعمق اللفظة، ودهاليزها الغائمة، وايماضاتها البعيدة وقدرتها على التفجر والانتشار. وهذا الأمر يتطلب متلقيا واعيا يقظا، اكثر من تطلبه الى مستمع في مسرح، تصله غايات القصيدة على جناح من زغب. وبذلك نعترف أن جمهور الشعر أصبح جمهورا صغيرا وخاصا ونخبويا، وهذا يعد من الملامح الصحية لأي مرحلة تطورية، حين يحتاج المتقلي الى فترة هضم واستيعاب قد تطول أو تقصر.
مجرة الماء..وطقوس الاغتسال
لقد كانت «مجرة الماء»-المجموعة ، هي مجال سباحتي في كل هذه المفاهيم «للشعرية الجديدة»، التي استقيتها من التجربة الذاتية أو المعرفة العامة، ويبقى كذلك أن هذه المجموعة جاءت لتمثل حالة نهائية من التوازن الشعوري والفني إزاء شكلي الشعر المنثور والموزون. فين دفتيها يتعانق الشكلان عبر نافذتين للرؤية والرؤيا، الأولى مكرسة لقصيدة الوزن، والثانية لقصيدة النثر، لتعلنا معا زواج النموذجين وتماهيهم.
وعلى قدر ما كانت قصيدة النثر في مجموعة «طقوس الاغتسال والولادة» منداحة في أماد الفضفضة والإفاضة والتشظي، وكلها سمات نفسية وفكرية اكثر منها فنية كما سبق أن نوهت - على قدر ما أتت نثريات «المجرة» ملتمة ومكثفة ومبأرة، لتعبر عن ملامح نفسية وفكرية بهذه اللمسات، وهذا ما تمثله نصوص مثل: «جوع»، «ما»، «نجد»، غب»، «نصف تفاحة»، ابرق.
أما بعد، فإن مرور مرحلة زمنية تنوف عن عقدين من الزمان، هي عمر النصوص المتناثرة عبر ثلاث مجموعات شعرية (الإنسان الصغير، طقوس الاغتسال والولادة، مجرة الماء)، لها أثرها ولا شك في انضاج التجربة الشعرية، وتشكيل الإنسان الكامن وراءها، ورفده بروح المغامرة، وغوايات التجريب.
لكنني لا أملك في «مختصر السيرة الشعرية» هذه إلا أن «أقص» و»أروي» نثار حياة، وظلال تجربة فنية، بكل ما فيها من هنات، وضعف إنساني، وارتجاف أمام الصخور المتأبية والأبواب المواربة، أما قياس مساحة هذه المغامرة، ووجاهة التجريب، فمتروك بلا شك لمغامرين آخرين، تجشموا معي عناء الوصول إلى آخر صفة في هذا الكتاب.
من كتاب الشاعرة «تتكسر لغتي.. أنمو»
منشورا
|
تعليقات
إرسال تعليق