جوقة ثقافية في «الحسين»!



غالبا ما تأتي الحقيقة بمنزلة الصدمة؛ ما بين احتفاءاتنا الكبيرة بمنارات الفكر والثقافة، واعتباراتنا المثالية بمن يحملون معتقداتنا الشخصية ويرردونها فنتمثلهم! سواء حملوا الثقافة الدينية أو التراثية أو الأيدولوجية أو حتى أبسط انتماءاتنا الاجتماعية..
في زيارة لمصر ضمن احتفالية ثقافية حملت أوجها وسمت ملامحها في المشهد الثقافي، جمعت مباغتة الغرابة.. قبل الوجه البائس الحزين لواقع الثقافة والحريات والمشتغلين فيه، إذ كان للمساءات بعد الندوات والفعاليات المتنوعة مكاشفاتها لمدى معايشة تلك النخبة أفكارها حياتيا..
جمعنا الغداء على طاولة ضمن مفكرين ومثقفين تجاوزوا العشرة، وكنت منتصف الطاولة أسترق السمع ما بين اليمين حيث يناقش الواقع العربي وتخلفه ومستقبل الأفكار النهضوية، واليسار الذي تخصص في مداولته المفكران كريم مروة وعلي حرب حول قيمة «البصل» وضرورته في الأطعمة جميعا مقليا أو مع الخبز واللحوم و..منفردا!
ابتعاد هذين عن تبادل الشعارات والتنظير في حضور الطعام كان لافتا بالنسبة إلي خاصة وأنهما الأطول تجربة والأكثر نتاجا، ولم يمنعني فضولي من مداهمة حوار «البصل» بسؤال ملح حول أسباب تمسك رجال الدين بما ورثوه ولقنوا إياه دون تجديد، وبنقل جامد ندرت فيه المدارسة والنقاشات، فأجاب مروة بما معناه أن «علماء الدين» ثلاث؛ أحدهم تجاوزت حالة التلقين عنده المساءلة، فلم تستوقفه فكرة وفق حالة التبعية المطردة، وآخر اكتشف بعض الارتباكات، ولكن فضل أن يرتاح ويريح حفاظا على مكتسباته الجماهيرية والمادية، وأحدهم أدرك ما للطرح الديني الحالي من تناقضات وقضايا شائكة يمكن أن تودي بالحراك التنموي في العالم، ولكنه خشي ردود الفعل فآثر الاكتفاء بالخطاب التقليدي أو العزلة!
بعد انتهاء أمسيتنا، كان لنا جولة في سوق «الحسين»؛ النخبة التي ضمت أغلب المثقفين والمفكرين في موكب هادئ؛ يتأمل وينظر، ويتدارس ويفكر، كنت أمشي خلفهم أتخيل أرسطو والمشائين معه ممن يدونون أفكارهم إثر تلك المشاهد الواقعية التي تشذب الأخلاق وتصدم القلوب وتطعن الأرواح بتناقضاتها وأساها وأفراحها الصغيرة، ليكتبوا فلسفتهم الخاصة، مروا بطفل يبيع البقوليات «الترمس»، استكمل الموكب مسيره مبتعدا.. وقبل أن ألحق بهم مر رجل معاق عقليا، تبادل الشتائم مع الطفل مزمجرا وغاضبا بلا سبب ثم ضربه وألقى بعربة «الترمس» كاملة على الأرض..
المشهد صدمني؛ المجنون فر راكضا بملابسه القذرة، تاركا خلفه الطفل يبكي بحرقة تقطع القلب و«الترمس» المنثور الذي ملأ المكان، قام الطفل وسط بكائه الأقرب إلى النحيب ليجمع الحبوب المختلطة بمياه المجاري من الأرض.. خفت أن أضيع وسط هذه الجموع، أعطيته ما يعفيه من غضب أبيه أو توبيخ صاحب هذه العربة، ربتُّ على كتفه وركضت خلف أصحابي.. «المثقفين المشّائين».. أتتبع من بعيد جوقتهم الإنسانية والفكرية والثقافية الخاصة بالإنسان البائس والمقهور.. تلك التي يوزعونها يمينا وشمالا دونما أدنى.. توقف..
وصلت إليهم ليحدثوني عن نظرياتهم في مسببات القهر الإنساني وتداعياته المتشكلة في الحياة اليومية بمنتهى.. العذوبة!


أفراح الهندال
http://www.alkuwaitiah.com/ArticleDetail.aspx?id=7177
  تاريخ الخبر : 14/01/2012




تعليقات

المشاركات الشائعة