حوار مع الشاعر اليمني فتحي أبو النصر..
| ||||
متصالح مع اختلافاتي في العالم والذات.. وأحاول أن أجد عبر الشعر ما يفسرني
فتحي أبو النصر: الكتابة فعل ثورة.. وإلا فهي ضائعة! أفراح الهندال ثمة شاعر يتملص من عقلانية الموت بنزاعه الثوري على الساحة المدماة في اليمن؛ فتحي أبو النصر ثائر بطبعه فكتب الشعر؛ أو لأنه شاعر بتصالحه مع الحياة تنفس الثورات! بين تلك التناقضات وَحَّد ثيمة المعيش حاملا معول الرؤية لـ «ينحت» شعره في ديوانين «نسيانات أقل قسوة» و»موسيقى طعنتني من الخلف» واجتراحات أدبية منشورة في عالم الإنترنت والصحافة. انتزعناه من «عوائه» اليومي الحزين على ما يعتمل في بلده، وبين سادية الحياة ولذة تشكلاتها نزف لنا التفاصيل المرسومة بإتقان من حوله! • هل تعبر بالشعر إلى حياة محتملة أو موت مؤجل؟ بل أحاول ان اجد عبر الشعر ما يفسرني أساساً، إذ ليس لي من حيلة امام الحياة والموت وهما يتآمران ضدي -بما انني خارج نطاقهما المجازي في الأصل مسهباً داخلهما في الآن نفسه- سوى أن أنجو منهما ولو قليلاً، ولو بالوهم، على أنني من شدة ضيقي بالشعر كما يحصل أحياناً -اقصد مع كل هذا الموت الغفير والحياة المروعة- إلا انني لا أجد نفسي رحيباً وممكناً سوى في حضرته، فبه أكون في عز الصراع الوجودي معي، كما يحرضني بانحيازي الثابت لي متمثلاً لوعي اللحظة المتحولة، لذلك أدين للشعر بمحاولات رتقه الدؤوبة لفتق الكينونة الرهيب، و طبعاً تبقى مهابته على درجة عالية من الروعة بصفته المنذور لخرابي الحلمي الجميل، فهو وحده من يجعلني متهماً ببراءتي ضمن فخه الذي ينقذني من الناحيتين الجمالية والمعرفية، أنا المشغول الدائم عبره بلملمة شتات مرآة الوجود التي تتهشم على غفلة من حنيني إليَّ.. تحديداً لعله ذلك المهجوس بعوائي معززاً بالكشف.. الكشف الذي يحصنني مني ومن العالم. و لربما يشبه الأمر استطراداً لا واعياً متعمقاً في حالة الذاكرة، بينما أكون أراهن -بلا فائدة تكفي- على النسيانات مثل .. أو لكأنها تلك الممارسات الإرادية باهرة الفقد عموماً، وأنا في حدة التصالح مع كل الحالات الملونة لنوازع اختلافي مع العالم والذات، وبالمقابل قيمتا الزمان والمكان وفكرتيا الحياة والموت ايضا. ميراث الحرية.. وتربية على مهل • مثلك «موبوء بالحنق على الحياة»، لن يقترفها بإنجاب صغير؛ ما الذي ستورثه لصغيرك؟ اعتقد ان صغيري «مياد» وهو الآن يقترب من عامه الثالث استطاع بجدارة ان يحيي داخلي اشياء ظننتها قد ماتت، على أنني لا أريد أن أورثه غير حريته، فيما لا أعبأ أن أكون له مثالاً على سبيل المثال، بقدر ما يهمني ان يعبر طرق ارادته بإراداته مهما كانت كيفيتها.. وبالطبع يهمني جداً ان لا ينكسر العالم في عيونه، غير أن للتاريخ أن يتحدث يوماً عن مداركه -كذات منفردة ومكتملة وواثقة- في مواجهة كل الانساق الحياتية القاسية ومن كل النواحي، فهو أهم حالة أبستمولوجية عشتها على الإطلاق، وأما من ناحية العاطفة الأبوية فأحب دائما أن أقول إنه الوحيد في هذا العالم الذي يحق له أن يربيني على مهل. لكن بما انني ادرك تماماً معنى العناءات اللامتوقعة في زمن الحظ المعاكس للرجاءات التي لا تهدأ، اقول إن عادتي التي لا غنى عنها هي انني لا استسيغ الندم أبداً.. واجمالاً تبقى الحياة من تخترعنا دائماً للموت، الحياة بلعبتها العاطفية التورطية الخالصة إذ تؤججنا برقة التوحش، بينما تقود إلى إنتاجنا أو إعادة إنتاجنا كي نستهلك مباهج تعبنا الوجودي المتأصل أصلاً، فهل بعاطفة الأبوة كنت أمجد طيشي فقط ولا شيء آخر؟ حتى الآن لا أظن..! صحيح ان صغيري الشاسع -الذي أفتتن به وبخياله الطفولي الأشد سوريالية غير المعقد أوالملوث- يبدع جيداً بنفخ النور في زجاجة روحي، فيما أستطيع أن أحبني معه أكثر، حتى أنني أكاد أجزم أنه يجعلني في لب الموضوعة الإنسانوية تماماً، إلا أن الأصح حسب إحساسي المتوتر ناحيته وناحيتي في ذات الوقت، هو أنه قرة لهاثي المطمئن ورائي، كما أنه قد يجعلني أتنازل أحيانا عن اندفاعاتي وجموحاتي، إلا أنني أبدا لن أتنازل عنها..! لا أرضخ إلا للعاطفة! من هنا يهمني أن اشير إلى أن المسألة برمتها بعيدة جدا عن الذرائع الاجتماعية مثلاً، فانا الذي كانت أجندتي «هذا ماجناه عليَّ ابي» ، لست ممن يرضخون إلا لشؤون العاطفة وجلال تحولاتها، كما أنني أرى أنه حتى تكون تجربتنا في الحياة مشبعة يبقى لا مناص لنا من استجداء العواطف كافة حتى التي لم نتوقعها كذلك، الأمر الذي جعل عاطفة الأبوة بالنسبة لي اليوم كحالة سحرية ملموسة ومعيشة، بمعنى أنني أعتبرها إحدى تجسيدات حتمية إدراكنا التصاعدي للأشياء، تلك الحتمية التي تجذفنا باتجاه سويتنا كإنسانيين أولاً وأخيراً..وبالمعنى النيتشوي يتوجب علينا أن نكون مفرطين في عاطفتنا من أجل ترسخ الوعي، وحتى نتمكن من تذوق سلاسة هذا الوجود الصعب بشقاء رؤيوي أقل، أقصد بما يتلاءم وأصل رحلتنا الانسانية في تجاوز التصورات المحددة سلفاً وصولاً الى خوض التجربة بقناعة تامة وتهيئة نفسية ذات اقتدار عاطفي، كما روج لذلك كل فلاسفة السعادة وهم يؤصلون لمهمة الانسان الضرورية في بلوغه صفاء الوعي بالنسبة لفكرتي الشك واليقين، اي انه المزاج الذي يأتي على عكس المتشائمين في كل تاريخ الفكر الانساني من فلاسفة وادباء رأوا الابوة كفعل خطيئة محض او باعتبارها هفوة انسانية مشينة، دونما الخوض فيها لاستيعاب جوهرها الفلسفي او النفسي كما ينبغي، ما بالكم ان الكثير من هؤلاء لم يقترحوا اي بدائل فكرية انجع تجاه هذه العاطفة من ناحية امكانيتها ولو القليلة أو المكابدة على تخليق الفرح وبالتالي العيش في اطار ممكناته بشكل حر، لا مجرد اعتبار هذه النوعية من الاحاسيس الارتقائية خصماً مسبقاً، أو إطارا متربصا من أجل حصارنا داخله بالمزيد من الإذلالات والاتعاسات الوجودية فقط! كمتطفل على اللحظة! • بعد هذا الانغلاق والتلوي في متاهة الحياة؛ كيف يمكنني فهم غواية الكتابة لديك؟ ليكن إنها سماجة اللحظة التي تنفلت على رأسي كشاهد أو كمتطفل أو كمتوقع! أو لكأنني أستعين بها على الصواب المعطل بفضيلة الأخطاء أو العكس، عبر ردات فعلها الخيالي، خصوصا مع تفاقم تموضعها داخل ذبذباتي الذهنية بما يجعلها تحقيقا لاستهوائي فعل تعقب الأهواء الدفينة للأشياء والأحاسيس نحو فك شيفرة غموضي واتضاحي كإنسان، وذلك في محاولة أن أرى ملامحي الداخلية وهي تلملمني من دهشتي وانبهاري من الآخرين والعالم، كيما تضعني أمامي، بلوغا لحالة العناق عبر النص الكتابي.. اقصد عناقي بي وانا في غمرة تواصلي مع صيروتي العميقة التي اصبحت لا تتحقق الا بكونها مجنسة كتابياً، بينما اكون تحت سطوة تسرنماتي بشهقات التدوين المتطرف لجماليات الوعي واللاوعي، وصولا الى محاولات انجاز موضوعيتي الانسانية في مواجهة الاحلام والخيبات بالكتابة نفسها.. الكتابة هنا كانبعاثية مضادة تحلق من انبعاثيتنا الراكدة في استبطانات الداخل، ثم تنوي-عبر رفرفاتها- أن تخوض معنا ذلك التوق الرهيب -الذي جعلنا مستبسلين بها- في دأب اثبات مجادلتنا العلنية للسر، لتبدو الكتابة من هذا المعطى بمثابة الوصفة المهمة لتوازنات الذات في تأرجحاتها القسرية بين الادراك والمعنى، وبالتالي كآلية مجابهة وجودية تؤوب بنا الى التخفف من اثقال الحواس والحدوس والتذهينات، كما تجعل الرؤى والافكار والتصورات المجردة في حالة من المقروئية معبدة المعنى وغير وعرة الوصول.. على ان حكاية الكتابة كما افهمها باختصار، هي حكاية اللعنة الملغزة والمغرية التي ارتبطت بالارواح المستبصرة منذ الازل، في حين تحدث صراخاً يتكدس داخل هذه الارواح، يحتاج حتماً الى عدم الانحباس حتى لا يكون سببا رئيسا لإتلافها مزيداً.. وبما أن ذلك لا يتحقق ألا عبر الكتابة؛ تبقى الكتابة هي التي ولعتني بها كمرض، حتى أنني لا أريد أن أعرف مثلاً إن كان سيزيد من الأمر تعقيدا شغفي الاستشفائي الهوسي بها وبكل هذا الانتماء! الثورات واستجابة الروح • ماذا عن الثورات؛ هل ستكون «طقسا» للكتابة؟ أصلاً الكتابة في جوهرها، فعل ثورة.. وإذا لم تكن كذلك فهي كتابة ضائعة، أقول هذا بالمعنى الجمالي المفتوح لا بالمعنى المدرسي البسيط. من هذا المعطى فقد جعلتنا الثورات نجد قصائدنا الجمعية بعد فراق مريع، كما تبلورت في سياق الثورات العربية افكار هامة حول حقوق الانسان والمواطنة والدولة المدنية الخ، ما يعزز من أنماط الرؤى الحديثة والمستقبلية في المنطقة بعيدا عن مهيمنات العسكر أو رجال الدين في إنتاج التخلف والاستبداد وأحاسيس اللا كرامة، كذلك بالمعنى الشعري تمثل الثورات ثيمة لتجسيد تفاعلاتنا الشعورية بمعاناة الانسان في ظل اللاحرية والآلام الوطنية العميقة. • من الذي سيدمر «ثورة» الشعر؟ للشعر-كما للفنون والاداب جميعاً- ثورة لانهائية لا تتدمر، فهي تقوم على بنية جمالية مجازفة، بمعنى ان تلك المضامين هي التي تستغرق كل زمان ومكان، الشعر في هذا السياق بالطبع هو محتوى المخيلة مثلما هو استجابة الروح لاغتراباتها وتطلعاتها.. أمارسني به كمنجاة من الفخ الانساني المحدد للتصورات. والمعروف ان التحولات الكبرى في الشعر خصوصا جاءت كنتاج للوعي التجريبي المحض المستبطن عثوراً لائقاً لتبدلات المرجعيات وانبثاق الذات جمالياً من واقع الاحتضار.. انه السحر الذي يطارد الانسانية منذ الازل .. حنقي فقط على أصنام الحس التي تعتقد أنها لن تتحطم. التخلص من خطابية الشاعر.. • تحت ركام هذا القهر واحتراق المدن وموت الإنسان؛ كيف يمكن للشاعر أن يتخلص من خطابيته؟ على الشاعر ألا يتخلص من رهافته في كل الظروف، أي أن يتابع تدمير الأصنام بمطرقة ذهنيته الاستبصارية جماليا وفنيا، فيما كل عمل أدبي غير متين الشكل والاسلوب بالتأكيد لا يخدم الانسانية.. هذا رأيي، لذلك لا اطيق الخطابية.. فالخطابية المحضة لا تقود الى أدب عالي الحس والقيمة. ثم أن هذه الخطابية تكون بمثابة ممارسة تضليلية مخربة للحس الثقافي والفكري والأدبي السليم. بمعنى أن على الشاعر ألا يفتقر الى عناصر مقاومة الاستلاب، وبالذات استلاب الذائقة التجريبية مهما كانت ظروف الواقع، تلك هي الهوية الادبية المتجاوزة والخلاقة، كما أن الخطابية بما أنها لا تهدف إلى رج القيم الثقافية الراكدة، فإنها تعبر عن مضمونات فكرية سطحية وهشة غالباً، كما تكون بسلطة تفسد الوعي المغامر والاكثر إنسانية وتطورا، الوعي الذي بممارسات نصية كاشفة ومضيئة على نحو إبداعي رفيع وبأثر مستقبلي- لتصدعات الواقع المعاصر. • من الذي سيتفوق بشعرية الثورات العربية؟ ما زلت أكرر بأن الحرية والتغيير ليستا ثيمتين ثوريتين فقط، فهما ثيمتان نصيتان كذلك. الثورة نتاج لائق بالتغير الثقافي، وهي بوقائع وتداعيات متراكمة ونشطة محورها تجاوز السائد المنمط بجدارة الانبعاث الإدراكي بحيث يطمئن الجوهر لانغماسه في الما بعد، فيما تقود المفاهيم المعرفية إلى تحولات عميقة جداً. فإذا كانت الثورة فعلا نصّيا يصاغ بالمخيلة الجماعية، والنصّ فعلا ثوريا يصاغ بالمخيلة الفردية، فإنهما يجسدان معاً، تلك اللحظة النوعية الفارقة -في توتر تطابقهما الإبداعي المنفرد مع التحول وضد الجمود- نحو توافق العام بالخاص حسياً وشعورياً وعقلياً ومعنوياً ومنطقياً ونفسياً ولامنطقياً أيضاً. وتبدأ الكتابة النصية مثل الفعل الثوري: بهزة عنيفة متألقة في المعنى لتفضي إلى معنى جديد شديد الإبهار والتميز والجدوى التاريخية. بينما ترتبط الثورة -من منظور التفاعل الفاعل وسؤال الكتابة وسؤال الحياة- بحيوية الذائقة المستقبلية التي لا تشيخ، كما يمكن القول في هذا السياق ان الشعر هو المجال الخلاق الذي يفيض بطزاجة الخصائص الثورية تماماً. ذلك أن الثورة كفعل ملهم بامتياز، لا تنتج مجتمعاً جديداً فقط، وإنما مخيلة خصبة، ورؤى أكثر حداثة على صعيد الفكر وحساسيته المغايرة أدباً ووعياً وذوقاً وتنويراً إلخ. يقول أحدهم ان كل ثوري عظيم هو فنان عظيم أيضاً. في حين تبدو الثورة السلمية من أهم مراحل القيم المدنية كذلك، غير أن للكتابة المختلفة بالتأكيد أبعادها المدنية قيمياً ورمزياً، ليس من ناحية الوجدان والروح فقط، وإنما من ناحية التوق الحضاري والنهضوي أساساً.. بمعنى أن الثورة والنص توأمان مثاليان ينطويان -في سياق شغفنا الإبداعي الشاق ذاتياً وشعبياً- على بؤرة مكابدات الثقافة الإنسانية السوية وهي في أروع صيغها جمالاً من أجل الحرية والتغيير. ألوذ مني بي..! • وهل يمكن للشاعر أن يكون أنانيا لا مرهف الحس وهو يستثمر معاناته بمازوشية الكتابة «ألوذ مني بي»؟ ليست مازوشية بقدر ماهي توحد مع نداءات الأنا.. والمقصد ان حساسية الاحتجاج هي العامل الموضوعي لهذا الالتياذ بمواجهة الأنا لسادية القلق أو ما يمكن ان أسميه غشم الاغتراب الوجودي.. على ان الأنا هنا تبدو كمحفوفة بمخاطرها على الأنا نفسها، وفي ذات الوقت على رؤيتها للآخرين وللعالم. .. طبعاً قد تكون جارحة ورقيقة، أو متوحشة وبريئة، إلا أن «ألوذ مني بي» تمثل محاولة للملمة الأنا المتناثرة لحظات التحولات الكبرى بعد انفجارها في الآخرين والعالم. تقمص اللافهم! • «وأنا أكتب أكون في خالص اللهاث»، «ولا حبيبة تلمعني بلعابها»، ما الذي تتقمصه؟ بين التقمص كحيوات متعددة ممتدة لا تنتهي كما الذين يؤمنون بالتناسخ أوالتقمص بمعنى التجسيد، التمثيل، المحاكاة؛ ربما أتقمص سوء تفاهمي معي..! أو ربما عدم انتباهي الكافي لكم. • «نسيانات أقل قسوة»، «موسيقى طعنتني من الخلف»..في ديوانيك حديث لا يكف، هات علائقه؟ سؤالك يقودني الى سؤال احد الاصدقاء في حوار صحافي وهو: «هل تغيرت وظيفة الشعر والطريق التي تؤدي بك إليه بين مجموعتيك؟» قلت حينها وهذا الذي مازلت اؤمن به، ان الطريق هي الطريق، هي التوحد في أبعاد الذات وأقاصيها، وهي اللهفة التي تنزع وحسب قصد التوجه إلى مرامي التكوين والمعنى، أو إلى صيرورة ذلك الحنين حيث التذهين الفني للماحول والذات، لكن التوغل في غيبوبتها أو مفاجآتها محفوف بالتيقظ الحاد والمغامرة المستمرة، إذ مع كل خطوة تتبلور مستجدات حياتية وجمالية بالطبع. والأهم أن هذه الطريق لا تقيم في صندوق مربع التصورات، وإنما بفسحة حثيثة وحيوية. إنها طريق تتفرع من طريق لتقود إلى طريق وهكذا. إنها طريق مربكة يا صديقي، طريق خلاص يشرد عابريه كثيراً، طريق لتصنيف المنفلت، طريق اللوعة، لوعة الهيام الشقي أقصد، فيما يبدو الهائم هنا مثل منتبه متوتر في السهو واللهاث إنسانيا وفنيا. أما وظيفة الشعر، فما من وظيفة منمطة له.. أعني أنني أفهم وظيفة الشعر في ما لا يتوقعه الشعر نفسه. ليست نسيانا ولا ذاكرة، ليست رحيلا ولا مجيئا، ليست عطشا أو ارتواء فقط، لكن ربما هي مزيج ملغز وبهيج من ذلك كله. أو حتى خارج نطاق الأضداد برمتها! لذلك أقول إن كان للشعر وظيفة باعتقادي فهي أن يكون بخصوصية متواشجة مع خصوصيته فقط، وداخل كل تجربة على حدة، أن تكون وظيفته عدم انغلاقه على وظيفة محددة سلفاً، أن تكون مفعمة بالحرية ومرهونة بعدم الانخضاع للراهن من الناحيتين المعرفية والذوقية. فوق ما سبق، يتحقق الشعر بجموحه الحر في المعلوم واللامعلوم، وهو احتشادنا بالمعنى واللامعنى كذلك، كما أن كل قصيدة هي تاريخ جديد للشعر، وعبره نعاند المآزق، ويبوح لنا الصمت أيضا، ليبدو الغموض في وظيفته كامنا في معنى أن تتجلى هذه الوظيفة أكثر في محنة غيابها وحضورها في آن. إنها السلاسة الصعبة بالتأكيد، بتأملاتها المتماسكة في واقع اللاانضباط هذا، مع كل الأحاسيس المتشظية داخل الرؤى والوعي، ولأجل المعرفي أولاً وأخيراً. الهروب إلى الرمز • هرب الشاعر القديم من مخاوفه بالرمزية.. متى تهرب إلى الرمز؟ الرمز انا، وانا الاتضاح المشين.. لكن الرمز غريب في اللغة واللغة واثقة من الرمز، فيما الرمز ضالتي كما هو محتوى ضياعي الجمالي بيني وبيني. على ان ذائقتي وهي تسجل للرمز اهتزازاته الادراكية، تتمنى ان يصير الرمز كاللون السري لموسيقاي او بطعم ندائي الداخلي لحنين العالم، فأن ينشق المرء عن نفسه في اللحظة التي يعتقد فيها انه تجذر به اكثر.. ذلك هو الرمز كما اتخيله وهو يفهمني، إذ بكل تلقائية نجدنا عبر الرمز متوحدين بحقيقتنا.. لكن الذنب، كل الذنب لا يقع على الاخرين في هذا السياق المفاهيمي جمالي الالتباس اذا لم تتم قراءة الكتابة الجديدة على نحو جديد ايضا. فاذا كانت الكتابة لا تتفق مسبقا على ان تكون مجرد ايواء للرمز بقدر ما يتفق الرمز على تجسيد التصورات الفنية المفروضة في الكتابة، الا انني لست مع مجانية الرمز مثلاً، حيث ان الكتابة اساسا وبمختلف محتوياتها هي مثالي الاعلى وليس الرمز سوى شاهد من جملة الشهود على ذلك.. صحيح انني مع كتابة اشمل احتواء لكل من الذات الكاتبة والقارئة على السواء، بينما مازلت اؤمن اننا بالرمز نكون اكثر انكشافا على كوامن الوجدان والوعي كما ينبغي.. فهل كان الرمز انثى مثلا؟ بل لعله كان حجرا.. او ربما هو ألفة الممكن واللاممكن في ان واحد، بما يعني انه وحشة الذات الكاتبة معرفيا، ومؤانستها الصعبة مع وعيها. [نكابد من أجل تخليق الفرح..والعيش في إطار ممكناته!] |
تعليقات
إرسال تعليق