التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لمَ غابت «المعارك الثقافية» عن ربيع الثورات..؟!

بالاختلاف تنجو سيرورة الحياة

لمَ غابت «المعارك الثقافية» عن ربيع الثورات..؟!

أفراح الهندال


 كما انبرت كلمات لـ «الكلمة البدء»؛ ترتبت أخلاق للمعارك، وفنون للقتال، وآداب للاختلاف، وبمجمل التناقضات تشكلت سيرورة الحياة التي -ما زلنا- نحبها، كل يخوضها بمعرفته، ويمارسها كما تستدعي كينونته، وأجملها «الاختلافات الثقافية» والمعارك الفكرية التي طالما أشعلت جذوة العقول وتطورت إثرها الأفكار.
لم هُجرت تلك الميادين؟ وما أسباب اختفاء السجالات من المشهد الثقافي، وشيوع الرتابة، وتدوير الثقافة الاستهلاكية؟ لم خلت الساحات إلا من الخصومات الشخصية المتقاذفة بالفضائح والغمز واللمز عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الإنترنت؟ تاركة «الثورات» وحيدة، تحرق الإنسان والبنيان.. تنتظر صحوة العنقاء التي فقدت عقلها!
أسئلة توجهت بها «الكويتية» إلى مجموعة من المثقفين والأدباء والنقاد، منهم من وارى بابه مخافة إذكاء نيران النوافذ، ومنهم من استغرب الأسئلة في مكان كـ «هنا» وزمان كـ «الآن»..
 ومنهم من أفضى بما دار في فكره، بإشارة واضحة إلى كوارث السياسة، كما فعل أستاذ النقد في المعهد العالي للفنون المسرحية د.علي العنزي، والكاتبة التي تحضر لشهادة الدكتوراه بالنقد الأدبي في المملكة المتحدة سعاد العنزي، الأديبة السورية سوزان خواتمي، القاص والناقد السعودي نضال البيابي، والروائي والناقد المصري محمد عبدالرحيم.. هنا بالقرب!
 
 
 
« إننا نمر بمرحلة ركود فكري، أسميها «زمن الأدعياء» وبعض الضعاف ممن كانت مغازلة مشاعر المتلقين وغرائزهم لأهداف تسويقية شغلهم الشاغل، ويمكن تجاوزا تسمية هؤلاء بآباء العريف!»، بهذه العبارة وصف د.علي العنزي غياب المعارك الثقافية، وأكد: «نعم..انحسرت منذ أواخر القرن العشرين المعارك الأدبية في الوطن العربي، بل ولم يعد لها أي دور في الحياة الثقافية العربية، بما فيها المعارك النقدية، كالتي كان على رأسها مثلا تيار الدكتور محمد مندور، والدكتور رشاد رشدي!».


أحفاد مأزومون
وأكمل: «شخصيا، أشبه المعارك الأدبية في النصف الأول من القرن العشرين، بجولات الملاكمة التي تنشب بين رجلين/خصمين قويين، متساويين في قوتيهما وعنفوانيهما، فيكون لقاء شائقا رنانا! أما في هذه الأيام، فالوضع في ظل اختفاء القمم الثقافية من حياتنا، يشبه لقاء خصوم هزيلين، لا حول ولا قوة لهما، يسقطان من أول لكمة! وأتساءل في هذا الصدد، من يحب أن يتابع معركة تفتقر إلى الخيول والسيوف؟!»، وتمثل د.العنزي بما تركته معارك «محمد عبده، فرح أنطون، رئيف خوري، حافظ إبراهيم، أحمد شوقي، الجواهري، علي مبارك، نازك الملائكة، توفيق الحكيم وغيرهم من المثقفين الذين نذكرهم لا على سبيل الحصر، ومن الطبيعي أن يأفل نجم معاركهم في أواخر القرن العشرين وتختفي معاركهم الأدبية، ويغيب دورهم عن الحياة الثقافية بسبب تغييب الموت لهذه القمم العربية.
انخفضت معدلات القراءة انخفاضا كبيرا في الوطن العربي تحت وطأة العلامات الإعلانية الاستهلاكية، وأجهزة الإعلام التي هيمنت اختزاليا على القدرات الإدراكية لدى الشباب اليافعين، وسطحت عقولهم بشكل سافر، بصورة ساعدت على ضمور الحراك الثقافي العربي، وتقلص المساحات المخصصة لفعالياته، في الوقت الذي تحتاج المعارك الأدبية إلى ذوق سليم وخيال خصب وقوة ملاحظة، وإدراك واسع نفتقر إليه».
واختتم د.العنزي حديثه بأثر السجالات الثقافية، لأنها «ذات طابع مصيري، بين فرسان حقيقيين شغلهم الشاغل التحليل والتقييم، وحماسهم النبيل لتغيير الواقع العربي وتجاوز أزماته، وهو ما يفتقر إليه أحفادهم المأزومون».


من أجل ماذا..وأين؟
الناقدة سعاد العنزي استفزها الموضوع؛ وعبرت عن ذلك بقولها: «سؤال غريب يستحضر نصا مسكوتا عنه وغير حاضر في الذهنية الثقافية الحالية، وهو مهم ومحفز لقضية مهمة؛ ألا وهي خوض المعركة من أجل «ماذا؟» وبغية الوصول إلى «أين؟»، فالأهم من حدوث المعركة هو الخلفيات المعرفية والقيمية والإنسانية التي تحركها وتقف خلفها.
ومن الجانب الآخر، السؤال هذا وبالذات في هذا الوقت الثوري من اللحظات الراهنة يحفز ويفتح الأبواب أمام رياح المعارك والتغيير على نحو إيجابي، وهنا تكمن أهمية السؤال، تركيزا على أسباب غيابها، فلنقل إن المعارك الأدبية خفتت تدريجيا في نهايات القرن المنصرم تقريبا، وهناك عرض لهذه الحالة المهادنة بين الأدباء والمثقفين، في عدد لا بأس به من المقالات، أقول مهادنة لأنها تخرج كنفثات للعداوة والبغضاء بين بعض المثقفين من خلال لغتهم التي تهمش من لا يطيقون وجوده في الساحة الثقافية».


بعيدا عن الرحى..والنار!
وإلى ملامح اليأس أشارت العنزي إلى أثر الحالة السياسية والاجتماعية العربية»، فظروف النكسات والنكبات المتوالية جعلت المثقف العربي يتنحى عن الصراع، فليس هناك ما يشجع المثقف على أن يخوض معركة ما ما دامت القضايا السياسية الكبرى تدار في رحى الغرب على درجة أقل من الصفر بكثير، لتعمه حالة من اليأس والإحباط من الدخول في صراعات لن تغير الواقع في شيء، ولا ننسى أن المعارك الأدبية كانت في أوجها متزامنة مع الثورات التحررية ضد الاستعمار، ومن ثم العدو الصهيوني، وكانت في أغلبها تقف مع القومية والأعراف والتقاليد، ضد نسمات الحداثة الغربية التي خافت أن تقتلعها من جذورها فحاولت الرد على ذلك بالتمسك بالقيم والثوابت».
خوف وجبروت..ثقافي
وأكملت: «السبب الأهم بوجهة نظري ينقسم إلى شقين: اندماج المثقف العربي والأديب بتيارات مابعد الحداثة التي أجمعت أغلب طروحاتها على «هامشية الإنسان» وعجزه عن التغيير بعد موجة فكر كل من فوكو وديريدا وبورديو، فما دام الإنسان غير قادر على التغيير؛ فعليه أن ينشغل بهمومه الخاصة وحياته اليومية، ومن هنا تسربت النزعة الفردية والذاتية في الأدب، على الرغم من كون المثقفين الثلاثة قدموا نقدا حقيقيا وراديكاليا لصورة الإنسان الحالي في هذا العالم، وبالتالي تغيره بعد إدراكه لسلبيته وهامشيته في الحياة، منه نتج أدب سلبي خال من قيم ثورية تغير وعي العالم، إلا من بعض الإسهامات الأصيلة المضيفة شيئا للوعي العالمي، فإذا كان الإنسان منشغلا بإنتاج إبداع خاو من القيم الثورية، فكيف نتوقع منه أن يخوض معركة أدبية؟!
الشق الثاني: الكثير من الأدباء اكتسوا من الطابع العام المسيطر سياسيا واجتماعيا وثقافيا بثقافة الجبن والمواربة والخنوع بدلا من الشجاعة في قول كلمة الحق والمصارحة، أو تصحيح ما يرونه مهمش الفكر والوعي، ونوع آخر ركب موجة الشر وأسس شبكاته العملاقة والضخمة التي تحاول نسف من يعارضها بأبشع الطرق، وهو ما يقع ضمن فكرة «الشللية الثقافية» الموجودة في كل وسط ثقافي في العالم، وهذا ما يجعل البعض يردع نفسه ألف مرة قبل ان ينتقد أحدا خوفا من «أشباح الآخر» وجبروته وعدم إيمانه بجدوى دوره في شبكته الثقافية، حيز تحركه».
وتمثلت العنزي بالمعارك التي وصفتها بـ «ذات النفس القصير» في الكويت؛ وهي «معركة الأدب الرديء ضد الشباب والمبدعين الجدد بشكل خاص، ومحاولات بعض الأدباء لنفيهم عن خارطة الإبداع وعدم الاعتراف بهم، أو في المقابل محاولة الصعود على أكتاف الشباب بمدحهم مدحا مطلقا، لا يقوم مسيرتهم ويضرهم، ويقابل ذلك صمت الشباب في الحالتين»، مؤكدة على أهمية الابتعاد عن المجاملة وتبادل المصالح المشتركة، والالتفات الى القضايا الإنسانية الكبرى.


عودة المكبوت
وبينما أشار د.العنزي والناقدة العنزي إلى الخصومات الأدبية بشكل خاص ولجم كلمة الحق؛ انطلق الكاتب نضال البيابي في حديثه من واقع «الربيع العربي» مع الكثير من التحفظات والنقد على رواسب المتشبثين بشعارات التنوير من دون تطبيقها؛ قائلا: «أيا يكن.. «المثقف» هو ابن عصره، ومن حيث لا يدري أسير ثقافته، وفيما كان ينظِّر المثقف العربي لمقولات ومفاهيم «عصر الأنوار» لم يكن بمقدوره في الغالب الأعم أن يفلت من بُنى ثقافته. تلك الرواسب التي يحملها في ثنايا الخافية، ولهذا نراها تولد من رحم «الربيع العربي» وإن كانت متنكرة في زي قشيب، ولكنها استردت مكانتها من جديد مع «فتوح» الربيع العربي! إنه عودة المكبوت ليس إلا؛ فالمثقف، سواء كان يساري الهوى، أو قومياً أو ليبرالياً، أوحتى ملحداً، يمكن أن ينقلب إلى متعصب ديني، متعصب ينطوي في داخله على نزعة إقصائية حيال الآخر. فقد تتغير الإيديولوجيا، ولكن آلية التفكير هي ذاتها التي تقصر الحقيقة والحق، على ما انتهت إليه، والباطل والرجعية على ما انتهى إليه الآخر».

نزعة متعصبة
يكمل البيابي: «إنها استجابة سيكولوجية لأثر الغرس الأول، أعني العنصر التكويني الأول الذي ينطوي على نزعة مذهبية متعصبة، لا ترى في الأفكار والسلوكيات إلاّ المختلف المرفوض والمتفق المقبول، الاختلاف المفضي إلى «النار» والطاعة التي تفضي إلى «الجنة»، كل فريق يعتقد بأنه على النقيض من الآخر، في حين أنهما يعبران في الواقع عن الظاهرة المرضية نفسها!
إنّها معبودات الذاكرة، أو كما يطلق عليها فرنسيس بيكون «معبودات القبيلة، معبودات السوق، معبودات المسرح..»، أي الذاكرة السحيقة التي تمثل إجمالاً القابليات الذهنية والنفسية والعادات والتقاليد والمحرمات التي تسود في مجتمع معين، وهو «الإرث الروحي» بتعبير شيغان، الذي يرثه الفرد عن جذوره، والذي يبقى أميناً له، أمانته لرباط مقدّس.
الإرث الروحي الذي يشكّل المصدر الأساسي لتكوين الفرد، النفسي/ السلوكي، والذي قد يستعبد الفرد دون وعي منه في آخر المطاف، لاسيّما حين تنعدم المسافة بينه وبين تصوراته، إذ إن انعدام الوعي بوجود مسافة بين الفرد وقيمه، تصوراته، وهذا هو المخيف، يعني بالضرورة انعدام النظرة النقدية في داخله، وبالتالي قد يتحول إلى متعصب صرف، برغبة تدميرية لكل من لا يستجيب إلى نواهيه، بمعنى أن هذه التصورات تصبح بمنزلة أصنام لها قوة ذاتية متسلطة، تُخضع الفرد لسطوتها، وحينئذ يجد نفسه مهووساً بكل ما يتعلق بها.

ويمكن القول أيضا: إنها عوارض المريض وتاريخه الشخصي، فالأطياف والاستيهامات قد تتحوّل إلى أصنام مستقلة عن إرادة منتجيها الأصليين، وما دامت الغلبة في الثقافة العربية للنزعات الدوغمائية فإن الحوار البيني سيغدو مستحيلاً، وبالتالي سيتحوّل إلى محض خصومات شخصية! فالاعتراف بالآخر كما هو بلا اشتراطات متعسفة، لا كما نريد، وأن 
له حقاً وجودياً يساوي حق «الأنا» تماماً، هو الشرط الذي يتوقف عليه نجاح الحوار.

و كما يعبر الفيلسوف الألماني بولنوف بأن الشرط المسبق الأول للحوار هو «القدرة على الإصغاء إلى الآخر.
والإصغاء بهذا المدلول يعني أكثر من التقاط الإشارات الصوتية، كذلك أكثر من فهم ما يقوله الآخر؛ إنه يعني أن أدرك أن الآخر يود أن يقول لي شيئاً، شيئاً مهماً بالنسبة إليّ، شيئاً عليّ أن أفكر فيه وقد يرغمني، إذا دعت الضرورة، على تغيير رأيي ..» ومن هذا المنطلق يمكن أن تتشكّل «المعارك» الأدبية في فضاء ثقافي تداولي بعيدا عن الثنائيات الصارمة التي تستبعد الحوار، لا بل أنها تئده في مهده، الصواب والخطأ، الخير والشر، الهدى والضلال، وما إلى هنالك من نزعات لاهوتية تحول دون تدفق عفوي للحوار، جاعلة منه غير مفيد على الإطلاق. ولهذا أصبحت المناوشات الفكرية لا تعدو كونها مجرد صراعات دونكوشوتية!
والسؤال هنا: كيف يمكن أن أصغي إلى الآخر إذا كنت أساساً لم أضع كل البنيات القائمة موضع سؤال؟!».


نزاعات مسلية.. ولكن!
الأديبة سوزان خواتمي تحدثت عن أنواع المعارك الفكرية واختلافها عما يدور في أروقة مشهدنا الثقافي؛ كـ «محاورات أفلاطون التي اعتمدت على الحوار والمنهج الجدلي باعتباره طريق اكتشاف الحقيقة، وبعضها إبداعي على الطريقة الشعرية كما في الهجاء المتبادل الذي حفظته لنا كتب الشعر القديم للفرزدق والأخطل وجرير، وبعضها عبثي متوتر كما هي خصومة جان بول سارتر وألبيركامو، وبعضها ساخن تحول من النقد إلى الخصومة الشخصية كالتي جرت بين العقاد وأحمد شوقي وأنتجت فيما أنتجته كتاب «الديوان في الأدب والنقد»، أو تلك التي دارت بين العقاد والرافعي، وغيرها».
وأكملت: «النهضات الأدبية العظيمة تترافق عادة بالحماسة واشتعال فتيلة السجالات والمداولات وتصاعد وتيرة النقد التي تؤدي إلى نظريات جديدة، وتفتح باباً على عوالم لم يسبق التطرق إليها، وذلك في عموم ميادين المعرفة؛ الأدب والفكر والاجتماع والفلسفة، تلك النقاشات كانت تستأثر باهتمام الصحف فتغني صفحاتها بالمقالات والرسائل المتبادلة، وتتابع عن كثب التفاصيل والمستجدات، بل وتغذيها بمداخلات لأطراف أخرى، متكفلة بمهمة نقلها إلى القراء وجعلها قضية أكثر انتشاراً وأعم فائدة».

«ومنذ خمسين عاماً لم تقدم لنا الحضارة فيلسوفاً جديداً؛ في زمننا الحالي -الهابط بكل معاييره- لم نعد نرى ولم نسمع ولم تنقل صحفنا لنا معركة فكرية حامية الوطيس، فنحن محاطون بالكامل بأخبار الانفجارات والحروب الطاحنة وأسلحة الإبادة الشاملة، بالطبع هذا لا يعني أننا نفتقر إلى المعارك بين الأدباء، فهي موجودة عبر الزمان والمكان، ففي النهاية المثقفون بشر يمتلكون كل نزعات الخير والشر، يعيشون تفاصيل الحياة ونزقها وهمومها ومعاركها كل بحسب طبيعته وبيئته؛ لكن (الخناقات) الحالية بعيدة تماماً عن مفهوم المعركة الأدبية فهي تنطلق من نزاعات شخصية وثأرية وتستخدم وسائل الضرب تحت الحزام. يساعد على إشعالها وإشاعتها وتصعيدها مواقع التواصل الاجتماعي التي تنوب عن مهمة الصحافة والصحفيين، وليس عليك كفضولي سوى متابعة البوستات أوالتغريدات بين بعض الأدباء والمثقفين لتقف على آخر تطورات النزاع وحصيلته من الأقاويل والتلميحات، فيما يتخذ عدد من المريدين على عاتقهم مهمة تغذية الحدث بالوقود المناسب، متحيزين إلى هذا الطرف أو ذاك، أو متكفلين بدور العميل المزدوج لتعميق الشرخ! 
الحقيقة أن متابعة هذه النزاعات – إن كنت تمتلك الوقت – أمر مسل جداً، وعيبه الوحيد أنه غير مفيد بالمرة!».



السلطة.. ومثقفو السلطة
أما الروائي محمد عبدالرحيم، فتناول شكل المثقف وعلاقته بالجمهور بعد الربيع العربي، وتصفية خصومات المثقفين استغلالاً للظرف السياسي، قائلا:»المشكلة بداية تكمن في السُلطة، والمثقف عموما يرى نفسه جديراً بتغيير العالم وإعادة صياغته على هواه، أما المثقف العربي فحالته مزمنة، وهو في تشابك مع السلطة سواء كانت سياسية أو دينية رغماً عنه، حتى لو عارضها وأصبح في صف المناضلين، فخطابه المعارض هذا يسير وفق آليات السلطة، التي للمفارقة تنتج هذا الخطاب وترعاه بشكل أو بآخر، وبدرجات مُتفاوتة حسب وعيها. وتاريخ مهادنة المثقف العربي للسلطة طويل، يكاد يقترب من تاريخ الثقافة العربية عموماً، بداية من قصائد المديح، والوقوف على أبواب الأمراء، وصولاً إلى الكتابات النقدية المطولة، التي تشرّح جماليات وعبقرية الزعيم العربي إذا انتوى ممارسة الأدب، مللاً من ممارسة السياسة. لكِ أن تراجعي الدراسات النقدية المُعلّبة التي كُتبت في مجموعة «معمر القذافي»، والتي صدرت للأسف عن مثقفين يعتبرون أنفسهم رموزاً في عالم الثقافة العربية».


فقد الثقة بالمثقفين
وانتقل عبدالرحيم إلى ما تسبب ذلك بـ «فقدان ثقة الجمهور العربي في مثقفيه، الذين طوّروا من أدواتهم الدعائية ــ دون الفنية ــ وأصبحوا يحتلون شاشات الفضائيات، يبررون ويلفقون المزيد من التواريخ الزائفة والبطولات الخائبة لساساتهم، وهو ما جعل المثقف العربي يقف متزلزلاً بعد أحداث الربيع العربي، يعمه في غِيّه، لا يفقه من أمره شيئا، وهو يرى أن وعي الجماهير، الذي طالما سخر منه، يسبق وعيه، ويصبح مرآة يرى بها وجهه المشوه. هناك بالطبع حالات استثنائية من المثقفين، الذين قبضوا بالفعل على الجمر، لكن أصوات مثقفي السلطة ابتلعت أصواتهم المبحوحة، لأن النوع الأول وهو الأكثر صخباً، والأكثر أُلفة على صفحات الجرائد وشاشات التليفزيون هو القادر دوماً على لم شتات نفسه، وإعادة صياغة موقفه، حسب ما استجد من أمور».


ثقافة استهلاكية
وحول المثال في الحالة المصرية قال عبدالرحيم: «رئيس اتحاد الكتاب على سبيل المثال، والمؤيد دوماً لوزير الثقافة في عهد مبارك المخلوع، أصبح يتغنى ليل نهار بأنه أصدر رواية تنبأت بثورة 25 يناير، ولم يزل في منصبه حتى الآن! هذا مجرد مثال، أما أشباهه فصياحهم يصم الآذان. وبما أن المثقفين درجات من حيث تسويق أنفسهم، فالثورة سمحت لمثقفي الدرجة الثانية بالصعود المحدود، لتبدأ عملية تصفية الحسابات ونشر الفضائح، حول تمويل الصحف والمشروعات الثقافية، التي يديرها كبار المثقفين. للأسف هذا هو حال الثقافة العربية عموماً، والتي أصبحت في معظمها ثقافة استهلاكية، فارغة المعنى. أما التجارب الحقيقية والتي تسعي بالفعل لتنوير المجتمعات العربية، فنجد أن أول مَن يحاربها ويقف ضدها هم الذين يسمون أنفسهم بالمثقفين. فالثورات العربية التي لم تُحسم نتائجها بعد، لم تزل بعيدة تماماً عن مناخنا الثقافي، الذي في حقيقته أكثر رديكالية من السلطة السياسية نفسها».منشور هنا..

تعليقات

المشاركات الشائعة