وجدتُ الانفرادَ يريحُ نفسي
فملت بجملتي للانفرادِ
فررتُ من اجتماعاتِ البرايا
وبي منهن موجعةُ الفؤادِ
ولا تنقم على البعدِ عنهم
فنفسي استعذبَت ثمرَ البعادِ
«دستور الحرية».. هذا ما يمكن أن نطلقه على كلمات شاعر الكويت الراحل صقر الشبيب وهو يلملم صيحات التكفير ليتركها في المساحة الضئيلة التي أفسحت للتعبير عن فكره متوجها إلى فسحة البعاد، ولو بأسى لم يسعفه الشعر ولا «الانفراد».
وفي ذكرى رحيل معري الكويت الخمسين نستعيد تساؤل د.نجمة إدريس في مقال نشرته العام الماضي: «ماذا يتبقى من علائق نفسية أو فكرية بيننا وبين شاعر مثل صقر الشبيب بعد مرور حوالي نصف قرن على وفاته؟ وماذا يفيد استرجاع سيرته الحياتية والشعرية وكأننا ندير أغنية قديمة؟»، وكأن ضجيج واقعنا الشديد الخصومة مع الفكر والحريات الإنسانية يستمر بإيقاعه صاخبا.. ولا صوت يعلو عليه، ليجيب تساؤلها.
صومعة المعري
الصورة وضوحها أكثر من أن تلتبس علينا، الزمان على بعد مسافة غنية بالأحداث التي تفترض التمدن والاحتفاء بالعلم والمعرفة، والمكان لم يبارح الشعر والوعظ والتفكير والصراعات التي حفلت بها صومعته، تلك التي وقف والده فيها رافضا صوت صديقه أحمد البشر الرومي وهو يقرأ له «نظرات» المنفلوطي وكتب «الرافعي» وقصائد المتنبي والمعري وغيرها.
وكيف لامرئ اجترح دروب المعارف من الكتاتيب في الكويت والبحرين والعقير وحتى التفقه في اللغة والدين في الإحساء، أن يقف عند مصاطب المحفوظات ولا يسأل؟ كيف لمن فقد بصره في السابعة من عمره ألا يجد في صنوه أبي العلاء المعري ملاذا يشاركه ارتهان المحبسين: «البيت والعمى»؟ الرجل الذي عرف عنه الانفعال والغضب والإصرار على الإنصات إلى الصوت الداخلي لم يرد «السائل»، لذا لم يكن والده ولا الأهل ولا الجموع التي أيدت شيوخ التعنيف والتكفير أو مدبر أموره «الخادم» الذي أغلق الباب استجابة لطلبه في آخر يوم من حياته خلاصة السيرة، القصائد التي أنصتت لظلمة عينيه واستنارة عقله ونزوع روحه إلى السماء.. السيرة كلها.
شبيب.. الصقر!
«العذال» الذين شكاهم «الصقر» هم أولئك الذين استكثروا عليه السماء ساخرين بانكسار أجنحته، لذا مرغهم بجراحه عبر الكثير من القصائد، شاتما ناقدا ناقما حتى اليأس! ورغم تقليدية أسلوبه الشعري واحتذائه بالقديم لغة ومعنى وموضوعات، إلا أنه أوجد فيها معبر فكره، تاركا إياها «الوصية» التي آثرت حفظ خصوصيته، وتركته التي لم تدع إلى اتخاذها منهجا، فاختتم شعره الموسوم بالتمرد والخروج على الأعراف والقوانين الدينية قائلا: «وخذ لك غير منهاجي سبيلا.. فلست لعاذل طوعَ القياد».
رمي الجمرات لا يتوقف
ليست القصائد هي غاية استذكار الشاعر الراحل بألمه، وإنما المعاناة التي أججت الثورة على محيطه وواقعه وإن غادرها بهمه، ليست الهموم هي قاتلته، وإنما أسبابها التي ناصبته العداء برميه بالكفر ودعت إلى إقامة الحد عليه، وتركته يعالجها بطلب الرحيل عن دنياهم كصاحبه فهد العسكر، كلاهما عانى الفقر والعمى ونفي المحيط، وها نحن نسترجع قصائدهما كلما سددت قذائفها على الأفكار الحرة.
طوابع وزارة الإعلام.. لم تطبع!
اتفقت وزارة المواصلات بالاتفاق مع رابطة الأدباء الكويتيين مطلع عام 2009 على تكريم عدد من رموز الإبداع في الكويت، ممن أسهموا في نهضة الحركة الثقافية، بإصدار طوابع تذكارية تحمل صورهم، وتضمنت الأسماء المقترحة كلا من: الشيخ يوسف بن عيسى، خالد الفرج، عبدالعزيز الرشيد، أحمد العدواني، فهد العسكر، عبدالله سنان، احمد بشر الرومي، صقر الشبيب، عبدالله العتيبي، عبدالله الدويش، خالد سعود الزيد، محمد شوقي الايوبي، عبدالرزاق البصير، عبدالله زكريا الانصاري، عبدالله الصانع، عبداللطيف النصف، عبدالعزيز حسين، احمد المشاري، حمد الرجيب، يعقوب الرشيد، عبدالمحسن الرشيد البدر.
وحتى اليوم.. لم يصدر منها طابع واحد!
الشبيب في المدونات
خصص الكاتب غانم العبدالله في مدونته «هاتف من الصحراء» 3 أيام للكتابة وجمع المعلومات واستذكار الشاعر صقر الشبيب بدءا من اليوم، وهي بادرة متميزة لمدونة تجمع مقالات عدة عن الثقافة في الكويت وآرائه في فعالياتها وبعض تفاصيلها على الرابط التالي:
معري الكويت.. في سطور
• صقر بن سالم الشبيب، ولد بالحي الشرقي من مدينة الكويت عام 1312هـ - 1896م، عاش مع والده وشقيقته بعد فقدان والدته التي كانت تعطف عليه.
• كان مكفوف البصر، لقب بشاعر الكويت، ودعاه الشاعر خالد الفرج: «معري» الكويت و«بشارها».
• رحل بعد الاختلاف في وجهات النظر مع والده إلى الإحساء عام 1914م بصحبة صديقه المرحوم محمد حمد الرومي في سفينة ذهبت بهما إلى البحرين ومنها إلى العقير وبعدها إلى الإحساء بطريق البر.
• تعرض وهو في الاحساء إلى مرض الملاريا التي كادت أن تقضي على حياته، إضافة إلى الاختلافات في أسلوب التعليم، فلم يجد من سبيل سوى العودة إلى وطنه عام 1916م.
• عمل الشبيب واعظا في أحد مساجد الكويت بعد عودته من الإحساء مع استمراره في كتابة القصائد الشعرية، الأمر الذي لم يرض عنه رجال الدين فشكوه لوالده، وكانت تلك الشكوى بداية خلاف آخر مع والده دفع بـه إلى ترك البيت والسكن وحيدا وظل يتعلم على يد الشيخ عبدالله خلف الدحيان.
• ذكر د.خليفة الوقيان في كتابه «الثقافة في الكويت» حادثة إفتاء الشيخ عبدالعزيز العلجي باستحلال دماء ثلاثة من رجال العلم والإصلاح والتنوير الكويتيين إضافة إلى المصلح السيد رشيد رضا، وهم: الشيخ عبدالعزيز الرشيد، والشيخ يوسف بن عيسى القناعي، والشاعر صقر الشبيب، «قتلهم ثمن لدخول الجنة بغير حساب»! وأفاض د.الوقيان بإيراد جملة من المعارضات الشعرية بالفصحى والعامية، تمثل نماذج من المعارك الكلامية حامية الوطيس، بين فريق يكفر وينفر باسم الدين والمحافظة، وفريق يجاهد مستميتا في الدفاع عن مكتسباته الثقافية، وحرياته المشروعة. في عام 1918م فقد الشبيب والده.. وظل مع شقيقته في ذلك البيت الذي كان على وشك السقوط، قدم له الشيخ سالم المبارك مساعدات مالية لإعادة بناء بيت العائلة، كما قامت بينه وبين الشيخ عبدالله السالم علاقات قوية كان الشعر محور مجلسهما.
• أصيب بمرض أقعده في غرفته داخل ذلك البيت الذي لا يشاركه فيه أحد سوى «الخادم» الذي كان يأتي إليه كل يوم لمدة ساعة واحدة، وفي يوم الثلاثاء 6 أغسطس 1963م ازداد المرض عليه حتى أنه كان يتمنى الموت، فطلب من خادمه ألا يبلغ أحد من معارفه عن حالته، بل إنه طلب خروجه من المنزل وإغلاق الغرفة بالمفتاح.. وأخذه معه! وظل وحيدا يعاني سكرات الموت حتى جاء الأجل المحتوم ففي صبيحة يوم الأربعاء 7 أغسطس 1963م عاد إليه ليجده قد فارق الحياة.
تعليقات
إرسال تعليق